فصل: فَصْلٌ: وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ حُكْمُهُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ حُكْمِ الْإِعْتَاقِ:

وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْإِعْتَاقِ وَبَيَانُ وَقْتِ ثُبُوتِ حُكْمِهِ فَلِلْإِعْتَاقِ أَحْكَامٌ بَعْضُهَا أَصْلِيٌّ وَبَعْضُهَا مِنْ التَّوَابِعِ.
أَمَّا الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلْإِعْتَاقِ: فَهُوَ ثُبُوتُ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ وَالْعِتْقُ فِي اللُّغَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ الْقُوَّةِ، يُقَالُ: عَتَقَ الطَّائِرُ، إذَا قَوِيَ فَطَارَ عَنْ وَكْرِهِ، وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ: اسْمٌ لِقُوَّةٍ حُكْمِيَّةٍ لِلذَّاتِ يَدْفَعُ بِهَا يَدَ الِاسْتِيلَاءِ وَالتَّمَلُّكِ عَنْ نَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مُقَابِلُهُ وَهُوَ الرِّقُّ عِبَارَةٌ عَنْ الضَّعْفِ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ: ثَوْبٌ رَقِيقٌ أَيْ: ضَعِيفٌ وَفِي مُتَعَارَفِ الشَّرْعِ يُرَادُ بِهِ الضَّعْفُ الْحُكْمِيُّ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ الْآدَمِيُّ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ، وَعَلَى عِبَارَةِ التَّحْرِيرِ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلتَّحْرِيرِ: هُوَ ثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيرَ هُوَ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ وَهِيَ الْخُلُوصُ يُقَالُ: طِينٌ حُرٌّ أَيْ: خَالِصٌ وَأَرْضٌ حُرَّةٌ، إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا خَرَاجٌ، وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ يُرَادُ بِهَا الْخُلُوصُ عَنْ الْمِلْكِ وَالرِّقِّ، وَهَذَا الْحُكْمُ يَعُمُّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْإِعْتَاقِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ تَنْجِيزًا ثَبَتَ هَذَا الْحُكْمُ لِلْحَالِ وَإِنْ كَانَ تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ أَوْ إضَافَةٍ إلَى وَقْتٍ يَثْبُتُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَالْوَقْتِ، وَيَكُونُ الْمَحَلُّ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَالِكِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إلَّا فِي التَّعْلِيقِ بِشَرْطِ الْمَوْتِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ التَّدْبِيرُ عِنْدَنَا، وَكَذَا الِاسْتِيلَادُ، ثُمَّ هَذَا الْحُكْمَ قَدْ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ وَقَدْ يَثْبُتُ فِي بَعْضِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَخْلُو.
إمَّا إنْ كَانَ فِي الصِّحَّةِ وَإِمَّا إنْ كَانَ فِي الْمَرَضِ.
فَإِنْ كَانَ فِي الصِّحَّةِ عَتَقَ كُلُّهُ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ مَالٌ آخَرَ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنًا أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ أَوْ الْغَرِيمِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ حَالَةَ الصِّحَّةِ.
فَالْإِعْتَاقُ صَادَفَ خَالِصَ مِلْكِهِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ فَنَفَذَ.
وَإِنْ كَانَ فِي الْمَرَضِ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ آخَرَ سِوَى الْعَبْدِ، وَالْعَبْدُ كُلُّهُ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ يُعْتَقُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ خَالِصُ حَقِّهِ لَا حَقَّ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ فِي الثُّلُثَيْنِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً عَلَى أَعْمَالِكُمْ» وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ كُلُّهُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ وَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ الزِّيَادَةَ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ حَقُّ الْوَرَثَةِ فَإِذَا أَجَازُوا فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ؛ فَيُعْتَقُ كُلُّهُ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا الزِّيَادَةَ يُعْتَقُ مِنْهُ بِقَدْرِ ثُلُثِ مَالِهِ وَيَسْعَى فِي الْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَى الْعَبْدِ فَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ عَتَقَ كُلُّهُ؛ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا يُعْتَقُ ثُلُثُهُ وَيَسْعَى فِي الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّ «رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، فَأَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُلُثَهُ وَاسْتَسْعَاهُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ» فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ الْإِعْتَاقِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ حَيْثُ أَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ حَيْثُ اعْتَبَرَهُ مِنْ الثُّلُثِ، وَعَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: لَا سِعَايَةَ فِي الشَّرِيعَةِ حَيْثُ اسْتَسْعَى الْعَبْدُ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنْ كَانَ مُسْتَغْرِقًا لَقِيمَتِهِ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَى الْعَبْدِ أَوْ لَهُ مَالٌ آخَرُ لَكِنَّ الدَّيْنَ مُسْتَغْرِقٌ لِمَالِهِ فَأَعْتَقَ يَسْعَى فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ لِلْغَرِيمِ رَدًّا لِلْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ إلَّا أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَتَجِبُ السِّعَايَةُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْأَعْرَجِ «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَسْعَى فِي الدَّيْنِ»، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ لِقِيمَةِ الْعَبْدِ بِأَنْ كَانَ الدَّيْنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَانِ يَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلْغَرِيمِ رَدًّا لِلْوَصِيَّةِ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ ثُمَّ نِصْفُهُ الثَّانِي عَتَقَ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، فَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ عَتَقَ جَمِيعُ نِصْفِهِ الثَّانِي، وَإِنْ لَمْ تُجِزْ يُعْتَقُ ثُلُثُ النِّصْفِ الثَّانِي مَجَّانًا بِغَيْرِ شَيْءٍ وَهُوَ سُدُسُ الْكُلِّ وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ النِّصْفِ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُعْتَقُ سُدُسُهُ مَجَّانًا بِغَيْرِ شَيْءٍ وَيَسْعَى فِي خَمْسَةِ أَسْدَاسِهِ: ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِلْغَرِيمِ وَسَهْمَانِ لِلْوَرَثَةِ.
وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدَانِ فَأَعْتَقَهُمَا وَهُوَ مَرِيضٌ، فَهُوَ عَلَى التَّفَاصِيلِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ سِوَاهُمَا وَهُمَا يَخْرُجَانِ مِنْ الثُّلُثِ، عَتَقَا جَمِيعًا بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجَا مِنْ الثُّلُثِ وَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ الزِّيَادَةَ فَكَذَلِكَ؛ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا الزِّيَادَةَ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ ثُلُثِ مَالِهِ وَيَسْعَى فِي الْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُمَا فَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ عَتَقَا جَمِيعًا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُهُ مَجَّانًا وَيَسْعَى فِي الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ، فَيَجْعَلُ كُلَّ رَقَبَةٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ؛ لِحَاجَتِنَا إلَى الثُّلُثِ فَيَصِيرُ جُمْلَةُ الْمَالِ وَهُوَ الْعَبْدَانِ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ فَيَخْرُجُ مِنْهَا سِهَامُ الْعِتْقِ وَسِهَامُ السِّعَايَةِ لِلْعَبْدَيْنِ: سَهْمَانِ مِنْ سِتَّةٍ، وَلِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ؛ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ.
فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ السِّعَايَةِ، يُجْعَلُ هُوَ مُسْتَوْفِيًا لِوَصِيَّتِهِ مُتْلِفًا لِمَا عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ، وَالتَّلَفُ يَدْخُلُ عَلَى الْوَرَثَةِ وَعَلَى الْعَبْدِ الْبَاقِي فَيُجْمَعُ نَصِيبُ الْوَرَثَةِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَنَصِيبُ الْعَبْدِ الْحَيِّ وَذَلِكَ سَهْمٌ فَيَكُونُ خَمْسَةً؛ فَيُعْتَقُ مِنْ الْعَبْدِ الْحَيِّ خُمُسُهُ، وَيَسْعَى فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ فَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْحَيِّ سَهْمٌ، وَالْمَيِّتُ قَدْ اسْتَوْفَى سَهْمًا فَحَصَلَ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْوَصِيَّةِ سَهْمَانِ؛ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ.
وَلَوْ كَانَ الْعَبِيدُ ثَلَاثَةً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُمْ، يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثُهُ وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ فَتَصِيرُ الْعَبِيدُ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ: سِتَّةُ أَسْهُمٍ لِلْوَرَثَةِ وَثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِلْعَبِيدِ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ السِّعَايَةِ صَارَ مُتْلِفًا لِمَا عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ مُسْتَوْفِيًا لِوَصِيَّتِهِ، فَيُجْمَعُ نَصِيبُ الْوَرَثَةِ وَذَلِكَ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَنَصِيبُ الْعَبْدَيْنِ سَهْمَانِ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ أَسْهُمٍ، فَيُجْعَلُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ فَيُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ رُبُعُهُ وَيَسْعَى فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ؛ فَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَلِلْعَبْدَيْنِ سَهْمَانِ وَالْمَيِّتُ اسْتَوْفَى سَهْمًا؛ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ.
فَإِنْ مَاتَ اثْنَانِ يُجْمَعُ نَصِيبُ الْوَرَثَةِ سِتَّةٌ وَلِلْحَيِّ سَهْمٌ فَيَكُونُ سَبْعَةٌ فَيُعْتَقُ مِنْ الْحَيِّ سُبُعُهُ وَيَسْعَى فِي سِتَّةِ أَسْبَاعِ قِيمَتِهِ؛ فَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ سِتَّةٌ وَلِلْحَيِّ سَهْمٌ وَالْمَيِّتَانِ اسْتَوْفَيَا سَهْمَيْنِ؛ فَحَصَلَتْ الْوَصِيَّةُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَالسِّعَايَةُ سِتَّةٌ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ.
هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ، يَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ فِي قِيمَتِهِ لِلْغُرَمَاءِ رَدًّا لِلْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ وَلَا وَصِيَّةَ إلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ بِأَنْ كَانَ أَلْفًا وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ.
يَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ ثُمَّ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَصِيَّةٌ، فَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ عَتَقَ النِّصْفُ الْبَاقِي مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ، وَإِنْ لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثُ نِصْفِ الْبَاقِي مَجَّانًا وَهُوَ السُّدُسُ وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ النِّصْفِ، فَفِي الْحَاصِلِ عَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ سُدُسُهُ مَجَّانًا وَيَسْعَى فِي خَمْسَةِ أَسْدَاسِهِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
الْمَرِيضُ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُ، فَأَمْرُ الْعَبْدِ فِي الْحَالِ فِي أَحْكَامِ الْحُرِّيَّةِ مِنْ الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا مَوْقُوفٌ فَإِنْ بَرِئَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَارَ حُرًّا مِنْ حِينِ أَعْتَقَ، وَإِنْ مَاتَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ حُرٌّ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ.
وَأَمَّا الَّذِي هُوَ مِنْ التَّوَابِعِ فَنَحْوُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَالْإِرْثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَكِنْ هَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ الْأَحْكَامِ الْأَصْلِيَّةِ لِلْإِعْتَاقِ بَلْ هِيَ مِنْ التَّوَابِعِ، وَالثَّمَرَاتُ تَثْبُتُ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ دُونَ بَعْضٍ كَالْإِعْتَاقِ الْمُضَافِ إلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ: الْإِعْتَاقُ الْمُضَافُ إلَى الْمَجْهُولِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ جَهَالَةَ الْمُعْتِقِ إمَّا إنْ كَانَتْ أَصْلِيَّةً وَإِمَّا إنْ كَانَتْ طَارِئَةً، فَإِنْ كَانَتْ أَصْلِيَّةً وَهِيَ أَنْ تَكُونَ الصِّيغَةُ مِنْ الِابْتِدَاءِ مُضَافَةً إلَى أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ غَيْرُ عَيْنٍ فَيُجْهَلُ الْمُضَافُ إلَيْهِ؛ لِمُزَاحَمَةِ صَاحِبِهِ إيَّاهُ فِي الِاسْمِ، فَصَاحِبُهُ الْمُزَاحِمُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِلْإِعْتَاقِ أَوْ لَا يَكُونُ مُحْتَمِلًا لَهُ، وَالْمُحْتَمِلُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ فِيهِ أَوْ مِمَّنْ لَا يَنْفُذُ، فَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْإِعْتَاقِ وَهُوَ مِمَّنْ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ فِيهِ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدَيْهِ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ، أَوْ يَقُولَ: هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا، أَوْ يَقُولَ سَالِمٌ حُرٌّ أَوْ بَرِيعٌ، لَا يَنْوِي أَحَدَهُمَا بِعَيْنِهِ فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّصَرُّفِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ الْكَيْفِيَّةُ، فَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِيهَا فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ فِي الْأَصْلِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى، وَنَوْعٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى: إنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهُمَا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ غَيْرُ نَازِلٍ فِي أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِخْدَامِ الْحُرِّ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَلَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُمَا ويستكسبهما وَتَكُونُ الْغَلَّةُ وَالْكَسْبُ لِلْمَوْلَى، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا.
وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِمَا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ، فَالْجِنَايَةُ لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ مِنْ الْمَوْلَى وَإِمَّا إنْ كَانَتْ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، وَلَا تَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، فَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِنْ الْمَوْلَى فَإِنْ كَانَتْ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ بِأَنْ قَطَعَ يَدَ الْعَبْدَيْنِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ نُزُولِ الْعِتْقِ حَيْثُ جَعَلَهُمَا فِي حُكْمِ الْمَمْلُوكَيْنِ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ، وَسَوَاءٌ قَطَعَهُمَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يُبْطِلُ الْخِيَارَ وَلَا يَكُونُ ثَابِتًا، بِخِلَافِ الْقَتْلِ؛ لِمَا نَذْكُرُ، وَإِنْ كَانَتْ جِنَايَةً عَلَى النَّفْسِ بِأَنْ قَتَلَهُمَا فَإِنْ قَتَلَهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ، فَالْأَوَّلُ عَبْدٌ وَالثَّانِي حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ عَلَى قَتْلِ الْأَوَّلِ فَقَدْ تَعَيَّنَ الثَّانِي لِلْعِتْقِ فَإِذَا قَتَلَهُ فَقَدْ قَتَلَ حُرًّا، فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَتَكُونُ لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ تَصِيرُ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ وَلَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ وَالْقَاتِلُ لَا يَرِثُ، وَإِنْ قَتَلَهُمَا مَعًا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَلَيْهِ نِصْفُ دِيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَلَى الْمَوْلَى أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْحُرُّ مِنْهُمَا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَشَاعَتْ حُرِّيَّةٌ وَاحِدَةٌ فِيهِمَا، وَهَذَا يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ بِنُزُولِ الْعِتْقِ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ فَإِنْ كَانَتْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِأَنْ قَطَعَ إنْسَانٌ يَدَ الْعَبْدَيْنِ فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْعَبِيدِ، وَذَلِكَ نِصْفُ قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَكِنْ يَكُونُ أَرْشُهُمَا لِلْمَوْلَى سَوَاءٌ قَطَعَهُمَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يُبْطِلُ خِيَارَ الْمَوْلَى، وَهَذَا يُوجِبُ الْقَوْلَ بِعَدَمِ نُزُولِ الْعِتْقِ إذْ لَوْ نَزَلَ، لَكَانَ الْوَاجِبُ أَرْشَ يَدِ عَبْدٍ وَحُرٍّ وَهُوَ نِصْفُ قِيمَةِ عَبْدٍ وَنِصْفُ دِيَةِ حُرٍّ، وَإِنْ كَانَتْ فِي النَّفْسِ فَالْقَاتِلُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ وَاحِدًا وَإِمَّا إنْ كَانَ اثْنَيْنِ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَإِنْ قَتَلَهُمَا مَعًا فَعَلَى الْقَاتِلِ نِصْفُ قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، نِصْفُ قِيمَةِ هَذَا وَنِصْفُ قِيمَةِ ذَاكَ وَيَكُونُ لِلْمَوْلَى، وَعَلَيْهِ نِصْفُ دِيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ هَذَا وَنِصْفُ دِيَةِ ذَاكَ وَتَكُونُ لِوَرَثَتِهِمَا، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ نَازِلٌ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ، لَكَانَ الْوَاجِبُ فِي قَتْلِهِمَا مَعًا قِيمَةَ عَبْدَيْنِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ بَلْ وَجَبَ دِيَةُ حُرٍّ وَقِيمَةُ عَبْدٍ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ وَقَدْ قَتَلَ حُرًّا وَعَبْدًا، وَالْوَاجِبُ بِقَتْلِ الْحُرِّ الدِّيَةُ وَبِقَتْلِ الْعَبْدِ الْقِيمَةُ، وَالدِّيَةُ لِلْوَرَثَةِ وَالْقِيمَةُ لِلْمَوْلَى وَإِنَّمَا انْقَسَمَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَجِبُ دِيَتُهُ فِي حَالٍ وَقِيمَتُهُ فِي حَالٍ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ حُرٌّ وَعَبْدٌ فَيَنْقَسِمُ ذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ كَمَا هُوَ أَصْلُ أَصْحَابِنَا، وَإِنْ قَتَلَهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ قِيمَةُ الْأَوَّلِ لِلْمَوْلَى وَدِيَةُ الثَّانِي لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْأَوَّلِ يُوجِبُ تَعَيُّنَ الثَّانِي لِلْعِتْقِ؛ فَيَتَعَيَّنُ الْأَوَّلُ لِلْمَوْلَى وَقَدْ قَتَلَ حُرًّا وَعَبْدًا خَطَأً، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ اثْنَيْنِ فَقَتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلًا فَإِنْ وَقَعَ قَتْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعًا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ الْقِيمَةُ نِصْفُهَا لِلْوَرَثَةِ وَنِصْفُهَا لِلْمَوْلَى، وَإِيجَابُ الْقِيمَتَيْنِ يُوجِبُ قِيمَةً وَدِيَةً عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْعِتْقَ غَيْرُ نَازِلٍ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَتَلَ عَبْدًا خَطَأً وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْقِيمَةَ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِنُزُولِ الْعِتْقِ فَإِنَّمَا لَمْ تَجِبْ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ مَنْ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ إذْ لَا يُعْلَمُ مَنْ الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الدِّيَةِ مَعَ الشَّكِّ، وَالْقِيمَةُ مُتَيَقِّنَةٌ فَتَجِبُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْقَاتِلُ وَاحِدًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَنْ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ لَا جَهَالَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْجَهَالَةُ فِيمَنْ لَهُ.
وَأَمَّا انْقِسَامُ الْقِيمَتَيْنِ؛ فَلِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِأَحَدِ الْبَدَلَيْنِ هُوَ الْمَوْلَى وَالْمُسْتَحِقُّ لِلْبَدَلِ الْآخَرِ هُوَ الْوَارِثُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ فِي حَالٍ وَلَا يَسْتَحِقُّ فِي حَالٍ فَوُجُوبُ الْقِيمَتَيْنِ حُجَّةُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَانْقِسَامُهُمَا حُجَّةُ الْقَوْلِ الْآخَرِ.
وَإِنْ وَقَعَ قَتْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ فَعَلَى قَاتِلِ الْأَوَّلِ الْقِيمَةُ لِلْمَوْلَى وَعَلَى قَاتِلِ الثَّانِي الدِّيَةُ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا قَتَلَ عَبْدًا وَالْآخَرُ قَتَلَ حُرًّا؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْأَوَّلِ أَوْجَبَ تَعَيُّنَ الثَّانِي لِلْحُرِّيَّةِ وَالْأَوَّلِ لِلرِّقِّ.
وَلَوْ كَانَ الْمَمْلُوكَانِ أَمَتَيْنِ فَوَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدًا أَوْ وَلَدَتْ إحْدَاهُمَا وَلَدًا فَاخْتَارَ الْمَوْلَى عِتْقَ إحْدَاهُمَا عَتَقَتْ هِيَ وَعَتَقَ وَلَدُهَا، سَوَاءٌ كَانَ لِلْأُخْرَى وَلَدًا أَوْ لَمْ يَكُنْ.
أَمَّا عَلَى قَوْلِ التَّخْيِيرِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ كَانَ نَازِلًا فِي غَيْرِ الْعَيْنِ مِنْهُمَا، وَالْبَيَانُ تَعْيِينٌ لِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ؛ فَعَتَقَتْ الْمُعَيَّنَةُ وَعَتَقَ وَلَدُهَا تَبَعًا لَهَا.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ التَّعْلِيقِ؛ فَلِأَنَّ الْعِتْقَ إنْ لَمْ يَنْزِلْ، فَقَدْ انْعَقَدَ سَبَبُ النُّزُولِ فِي إحْدَاهُمَا فَيَسْرِي إلَى وَلَدِهَا كَالِاسْتِيلَادِ وَالْكِتَابَةِ.
وَلَوْ مَاتَتْ الْأَمَتَانِ مَعًا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ وَقَدْ وَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدًا خُيِّرَ الْمَوْلَى فَيَخْتَارُ عِتْقَ أَيِّ الْوَلَدَيْنِ شَاءَ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا مَاتَتَا مَعًا لَمْ تَتَعَيَّنْ إحْدَاهُمَا لِلْحُرِّيَّةِ فَحَدَثَ الْوَلَدَانِ عَلَى وَصْفِ الْأُمِّ؛ فَيُخَيَّرُ الْمَوْلَى فِيهِمَا كَمَا كَانَ يُخَيَّرُ فِي الْأُمِّ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الْوَلَدَيْنِ قَبْلَ الْآخَرِ مَعَ بَقَاءِ الْأَمَتَيْنِ، لَا يُلْتَفَتُ إلَى ذَلِكَ وَيُخَيَّرُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَوْتِهِ تَعْيِينٌ إذْ الْحُرِّيَّةُ إنَّمَا تَتَعَيَّنُ فِيهِ بِتَعَيُّنِهَا فِي أُمِّهِ وَحُكْمُ التَّعْيِينِ فِي الْأُمِّ قَائِمٌ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَهَا مُمْكِنٌ فَيُخَيِّرُ الْمَوْلَى فِيهِمَا فَأَيُّهُمَا اخْتَارَ عِتْقَهَا فَعَتَقَتْ، عَتَقَ وَلَدُهَا.
وَلَوْ قَتَلَ الْأَمَتَيْنِ مَعًا رَجُلٌ، خُيِّرَ الْمَوْلَى فِي الْوَلَدَيْنِ؛ لِمَا قُلْنَا فِي الْمَوْتِ، وَأَيُّهُمَا اخْتَارَ عِتْقَهُ فَعَتَقَ، لَا يَرِثُ مِنْ أَرْشِ أُمِّهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَتَقَ بِاخْتِيَارِ الْعِتْقِ فِيهِ وَذَلِكَ يَتَأَخَّرُ عَنْ الْمَوْتِ فَلَا يَرِثُ شَيْئًا بَلْ يَكُونُ الْكُلُّ لِلْمَوْلَى، وَهَذَا نَصُّ مَذْهَبِ التَّعْلِيقِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَوْ كَانَ نَازِلًا فِي إحْدَاهُمَا لِحُدُوثِهِمَا عَلَى وَصْفِ الْأُمِّ، لَكَانَ الِاخْتِيَارُ تَعْيِينًا لِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِتْقُ فَكَانَ عِتْقُهُ مُتَقَدِّمًا عَلَى مَوْتِ الْأُمِّ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَرِثَ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَلَوْ وُطِئَتْ الْأَمَتَانِ بِشُبْهَةٍ قَبْلَ اخْتِيَارِ الْمَوْلَى، يَجِبُ عُقْرُ أَمَتَيْنِ، وَيَكُون لِلْمَوْلَى كَالْأَرْشِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ التَّعْلِيقَ إذْ لَوْ كَانَ تَنْجِيزًا، لَكَانَ الْوَاجِبُ عُقْرَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ وَلَكَانَ نِصْفُ ذَلِكَ لِلْأَمَتَيْنِ وَالنِّصْفُ لِلْمَوْلَى، وَلَمَّا كَانَ كَسْبُهُمَا لَهُ وَالْأَرْشُ فَالْعُقْرُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ بِدُونِ مِلْكِ الْأَصْلِ، وَقَدْ يَمْلِكُ الْكَسْبَ بِدُونِ مِلْكِ الْأَصْلِ كَالْغَاصِبِ فَلَمَّا كَانَ الْكَسْبُ لَهُ فَالْأَرْشُ وَالْعُقْرُ أَوْلَى، وَلَوْ بَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا، أَمَّا عَلَى قَوْلِ التَّنْجِيزِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ إذَا نَزَلَ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ مِنْهُمَا صَارَ جَامِعًا بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ بِالْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ التَّعْلِيقِ فَلِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ قَدْ ثَبَتَ وَهُوَ انْعِقَادُ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ لِأَحَدِهِمَا فَيَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ، كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ قِنٍّ وَمُدَبَّرٍ فِي الْبَيْعِ وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الثَّمَنِ.
وَلَوْ أَنَّهُ بَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَسَلَّمَهُمَا إلَى الْمُشْتَرِي فَأَعْتَقَهُمَا الْمُشْتَرِي فَيُقَالُ لِلْبَائِعِ: اخْتَرْ الْعِتْقَ فِي أَحَدِهِمَا، وَأَيُّهُمَا اخْتَارَ عِتْقَهُ، عَتَقَ الْآخَرِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا قَبَضَهُمَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَقَدْ مَلَكَ أَحَدَهُمَا وَنَفَذَ إعْتَاقُهُ فِيهِ، فَإِذَا عَيَّنَ الْبَائِعُ أَحَدَهُمَا لِلْعِتْقِ، تَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْمِلْكِ الْفَاسِدِ، فَيَنْفُذُ فِيهِ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا بُدِئَ بِتَخْيِيرِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْهُ حَصَلَ فِي مَجْهُولٍ، فَمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ أَحَدُهُمَا لِلْحُرِّيَّةِ لَا يَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْمِلْكِ الْفَاسِدِ، فَإِنْ مَاتَ الْبَائِعُ قَبْلَ الْبَيَانِ قَامَتْ الْوَرَثَةُ مَقَامَهُ، وَيُقَالُ لَهُمْ: بَيِّنُوا فَإِنْ بَيَّنُوا فِي أَحَدِهِمَا، عَتَقَ الْآخَرُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَا يُقَالُ: يَنْبَغِي أَنْ يَنْقَسِمَ الْعِتْقُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى كَمَا إذَا مَاتَ قَبْلَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الِانْقِسَامِ أَنْ لَا يَزُولَ الْمِلْكُ عَنْ أَحَدِهِمَا لِاسْتِحَالَةِ انْقِسَامِ الْحُرِّيَّةِ عَلَى الْحُرِّ، وَالْمِلْكُ قَدْ زَالَ عَنْ أَحَدِهِمَا؛ فَتَعَذَّرَ الِانْقِسَامُ وَبَقِيَ الْخِيَارُ فَقَامَ الْوَارِثُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فَإِنْ قِيلَ: الْخِيَارُ عِنْدَكُمْ لَا يُوَرَّثُ فَكَيْفَ وَرَّثْتُمْ هَذَا الْخِيَارَ وَهَذَا مِنْكُمْ تَنَاقُضٌ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْخِيَارَ لَا يُوَرَّثُ عِنْدَنَا بَلْ يَثْبُتُ لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً لَا بِطَرِيقِ الْإِرْثِ بَلْ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَحَقُّوا قِيمَةَ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ فَكَانَ لَهُمْ التَّعْيِينُ كَمَا كَانَ لِلْبَائِعِ، وَهَذَا كَمَا قَالُوا فِيمَنْ بَاعَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ، عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ وَقَبَضَهُمَا الْمُشْتَرِي فَمَاتَا فِي يَدِهِ ثُمَّ مَاتَ الْبَائِعُ، أَنَّ لِوَرَثَةِ الْبَائِعِ الِاخْتِيَارَ ابْتِدَاءً لَا بِطَرِيقِ الْإِرْثِ كَذَا هَذَا، فَإِنْ لَمْ يُعْتِقْ الْمُشْتَرِي حَتَّى مَاتَ الْبَائِعُ، لَمْ يَنْقَسِمْ الْعِتْقُ فِيهِمَا حَتَّى يَفْسَخَ الْقَاضِي الْبَيْعَ، فَإِذَا فَسَخَهُ انْقَسَمَ وَعَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ فَوَاتِ شَرْطِ الِانْقِسَامِ وَهُوَ عَدَمُ زَوَالِ الْمِلْكِ فِي أَحَدِهِمَا، وَالْمِلْكُ قَدْ زَالَ عَنْ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ فَتَعَذَّرَ التَّقْسِيمُ وَالتَّوْزِيعُ، إلَّا أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ وَاجِبُ الْفَسْخِ حَقًّا لِلشَّرْعِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ، وَفَسْخُهُ بِفِعْلِ الْقَاضِي أَوْ بِتَرَاضِي الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَإِذَا فَسَخَ عَادَ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَشَاعَ الْعِتْقُ فِيهِمَا وَعَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ.
وَلَوْ وَهَبَهُمَا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِمَا أَوْ تَزَوَّجَ عَلَيْهِمَا يُخَيَّرُ فَيَخْتَارُ الْعِتْقَ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ وَتَجُوزُ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْإِمْهَارُ فِي الْآخَرِ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّةَ أَحَدِهِمَا أَوْ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ وَهُوَ انْعِقَادُ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ فِي أَحَدِهِمَا عَلَى اخْتِلَافِ الْكَيْفِيَّتَيْنِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَمَعَ فِي الْهِبَةِ أَوْ فِي الصَّدَقَةِ أَوْ فِي النِّكَاحِ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ يَصِحُّ فِي الْعَبْدِ، وَكَذَا إذَا جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ مُدَبَّرٍ وَقِنٍّ يَصِحّ فِي الْقِنِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِي الْبَيْعِ إنَّمَا يُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ جَعَلَ قَبُولَ الْبَيْعِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْطًا لِصِحَّةِ قَبُولِهِ فِي الْآخَرِ وَأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ لَا تُبْطِلُهَا الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فَإِنْ قِيلَ: إذَا قَبَضَهُمَا الْمَوْهُوبُ لَهُ أَوْ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ أَوْ الْمَرْأَةُ، فَقَدْ زَالَ الْمِلْكُ عَنْ أَحَدِهِمَا فَكَيْفَ يُخَيِّرُ الْمَوْلَى؟ فَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نَقُولُ بِزَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ بَلْ زَوَالُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى وُجُودِ الِاخْتِيَارِ، فَإِذَا تَعَيَّنَ أَحَدُهُمَا لِلْعِتْقِ بِاخْتِيَارِهِ الْعِتْقَ يَزُولُ الْمِلْكُ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ الْعِتْقَ فِي أَحَدِهِمَا بَطَلَتْ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ فِيهِمَا وَبَطَلَ إمْهَارُهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ فَقَدْ شَاعَ الْعِتْقُ فِيهِمَا لِوُجُودِ شَرْطِ الشِّيَاعِ؛ فَيُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَمُعْتَقُ الْبَعْضِ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مِنْ الْغَيْرِ.
وَلَوْ أَسَرَهُمَا أَهْلُ الْحَرْبِ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَخْتَارَ عِتْقَ أَحَدِهِمَا، وَيَكُونُ الْآخَرُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لَمْ يَمْلِكُوهُمَا بِالْأَسْرِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ أَوْ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ لِأَحَدِهِمَا ثَابِتٌ وَكُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ التَّمَلُّكِ بِالْأَسْرِ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُونَ الْمُكَاتَبَ وَالْمُدَبَّرَ بِالْأَسْرِ كَمَا لَا يَمْلِكُونَ الْحُرَّ، وَإِذَا لَمْ يُمْلَكَا بِالْأَسْرِ بَقِيَا عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى وَلَهُ خِيَارُ الْعِتْقِ، فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا بَقِيَ الْآخَرُ عَبْدًا فَيَمْلِكُهُ أَهْلُ الْحَرْبِ فَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ الْمَوْلَى حَتَّى مَاتَ بَطَلَ مِلْكُ أَهْلِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ الْمَوْلَى شَاعَتْ الْحُرِّيَّةُ وَعَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ فَتَعَذَّرَ التَّمَلُّكُ، وَلَوْ أَسَرَ أَهْلُ الْحَرْبِ أَحَدَهُمَا لَمْ يَمْلِكُوهُ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ أَوْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْحُرِّيَّة وَكُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ التَّمَلُّكِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ إيَّاهُ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِلْمِلْكِ فَقَدْ بَاعَ مِلْكَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَصَحَّ.
وَلَوْ اشْتَرَاهُمَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ تَاجِرٌ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَخْتَارَ عِتْقَ أَيِّهِمَا شَاءَ وَيَأْخُذَ الْآخَرَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ كَانَ ثَابِتًا لِلْمَوْلَى قَبْلَ الْبَيْعِ، فَإِذَا بَاعُوا فَقَدْ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي مَا كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ خِيَارِ الْعَمَلِ فَإِذَا اخْتَارَ عِتْقَ أَحَدِهِمَا صَحَّ مِلْكُ أَهْلِ الْحَرْبِ وَالْمُشْتَرِي مِنْهُمْ فِي الْآخَرِ؛ فَيَأْخُذُهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَإِنْ اشْتَرَى التَّاجِرُ أَحَدَهُمَا فَاخْتَارَ الْمَوْلَى عِتْقَهُ، عَتَقَ وَبَطَلَ الشِّرَاءُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وِلَايَةَ الِاخْتِيَارِ قَائِمَةٌ لِلْمَوْلَى، فَإِنْ أَخَذَهُ الْمَوْلَى مِنْ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِالثَّمَنِ عَتَقَ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ أَخْذَهُ إيَّاهُ إعَادَةٌ لَهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ فَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ كَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ.
وَلَوْ قَالَ فِي صِحَّتِهِ لِعَبْدَيْهِ: أَحَدُكُمَا حُرُّ ثُمَّ مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ فَاخْتَارَ عِتْقَ أَحَدِهِمَا يُعْتَقُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ بِأَنْ كَانَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا أَلْفًا وَقِيمَةُ الْآخَرِ أَلْفَيْنِ فَبَيْنَ الْعِتْقِ فِي الَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفَانِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إضَافَةَ الْعِتْقِ إلَى الْمَجْهُولِ إيقَاعٌ وَتَنْجِيزٌ، إذْ لَوْ كَانَ تَعْلِيقًا وَاقْتَصَرَ الْعِتْقُ عَلَى حَالَةِ الْمَرَضِ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ، كَمَا لَوْ أَنْشَأَ الْعِتْقَ فِي الْمَرَضِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ.
وَلِلْعَبْدَيْنِ حَقُّ مُخَاصَمَةِ الْمَوْلَى فَلَهُمَا أَنْ يَرْفَعَاهُ إلَى الْقَاضِي وَيَسْتَعْدِيَا عَلَيْهِ، وَإِذَا اسْتَعْدَيَا عَلَيْهِ أَعَدَاهُمَا الْقَاضِي وَأَمَرَهُ الْقَاضِي، بِالْبَيَانِ أَعْنِي اخْتِيَارَ أَحَدِهِمَا وَجَبَرَهُ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ لَوْ امْتَنَعَ.
أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ التَّنْجِيزِ؛ فَلِأَنَّ الْعِتْقَ نَازِلٌ فِي أَحَدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ عَيْنٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْحُرُّ وَالْحُرِّيَّةُ حَقُّهُ وَلَهُ فِيهَا حَقٌّ.
وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ التَّعْلِيقِ؛ فَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ إنْ لَمْ تَثْبُتْ فِي أَحَدِهِمَا فَقَدْ يَثْبُتُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ أَعْنِي الْعَقْدَ سَبَبُ ثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ ثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ أَصْلًا وَهَذَا حَقُّهُ وَلَهُ فِيهِ حَقٌّ، وَالْبَيَانُ طَرِيقُ اسْتِيفَاءِ هَذَا الْحَقِّ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَبِيلٍ مِنْ الْخُصُومَةِ وَالْمُطَالَبَةِ بِالْبَيَانِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْبَيَانُ إلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِجْمَالَ مِنْهُ فَكَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ، كَمَا فِي بَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْمُشْتَرَكِ فِي النُّصُوصِ وَكَمَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ أَوْ بَاعَ قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ كَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ.
كَذَا هَذَا.
الْبَيَانُ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: نَصٌّ وَدَلَالَةٌ وَضَرُورَةٌ.
أَمَّا النَّصُّ: فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ الْمَوْلَى لِأَحَدِهِمَا عَيْنًا: إيَّاكَ عَنَيْتُ أَوْ نَوَيْتُ أَوْ أَرَدْتُ بِذَلِكَ اللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرْت، أَوْ اخْتَرْتُ أَنْ تَكُونَ حُرًّا بِاللَّفْظِ الَّذِي قُلْتُ، أَوْ أَنْتَ حُرٌّ بِذَلِكَ اللَّفْظِ الَّذِي قُلْتُ أَوْ بِذَلِكَ الْإِعْتَاقِ، أَوْ أَعْتَقْتُكَ بِالْعِتْقِ السَّابِقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ، فَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَعْتَقْتُكَ بِالْعِتْقِ السَّابِقِ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ عِتْقًا مُسْتَأْنَفًا، عَتَقَا جَمِيعًا، وَهَذَا بِالْإِعْتَاقِ الْمُسْتَأْنَفِ وَذَاكَ بِاللَّفْظِ السَّابِقِ؛ لِأَنَّ إنْشَاءَ الْعِتْقِ فِي أَحَدِهِمَا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ اخْتِيَارُ الْعِتْقِ فِي الْآخَرِ دَلَالَةً؛ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ بِهِ الَّذِي لَزِمَنِي بِقَوْلِي: أَحَدُكُمَا حُرٌّ يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: أَعْتَقْتُكَ عَلَى اخْتِيَارِ الْعِتْقِ، أَيْ اخْتَرْتُ عِتْقَكَ.
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يُخْرِجَ الْمَوْلَى أَحَدَهُمَا عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ أَوْ بِالْهِبَةِ أَوْ بِالصَّدَقَةِ أَوْ بِإِنْشَاءِ الْعِتْقِ، أَوْ يَرْهَنَ أَحَدَهُمَا أَوْ يُؤَاجِرَ أَوْ يُكَاتِبَ أَوْ يُدَبِّرَ أَوْ يَسْتَوْلِدَ إنْ كَانَتْ أَمَةً؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَنْ خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ فَفَعَلَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى اخْتِيَارِهِ أَحَدَهُمَا، يُجْعَلُ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُ دَلَالَةً وَيَقُومُ ذَلِكَ مَقَامَ النَّصِّ كَأَنَّهُ قَالَ: اخْتَرْتُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِبَرِيرَةَ: «إنْ وَطِئَكِ زَوْجُكِ، فَلَا خِيَارَ لَكِ» لِمَا أَنَّ تَمْكِينَهَا زَوْجَهَا مِنْ الْوَطْءِ دَلِيلُ اخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا لَا نَفْسَهَا؛ فَصَارَ هَذَا أَصْلًا فِي الْبَابِ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ كُلُّهَا فِي أَحَدِهِمَا دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْعِتْقِ فِي الْآخَرِ؛ لِأَنَّ مِنْهَا مَا يُنَافِي اخْتِيَارَ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ فِي الْمُتَصَرَّفِ فِيهِ وَهِيَ التَّصَرُّفَاتُ الْمُزِيلَةُ لِلْمِلْكِ وَمِنْهَا مَا لَا يُنَافِي اخْتِيَارَ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ فِي الْمُتَصَرَّفِ فِيهِ، لَكِنَّ اخْتِيَارَ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ فِيهِ يُبْطِلُهُ: وَهُوَ الرَّهْنُ وَالْإِجَارَةُ وَالْكِتَابَةُ وَالتَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ.
وَالْعَاقِلُ يَقْصِدُ صِحَّةَ تَصَرُّفَاتِهِ وَسَلَامَتِهَا عَنْ الِانْتِقَاضِ وَالْبُطْلَانِ؛ فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى كِلَا النَّوْعَيْنِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ فِي أَحَدِهِمَا دَلِيلًا عَلَى اخْتِيَارِهِ الْعِتْقَ الْمُبْهَمَ فِي الْآخَرِ، وَاخْتِيَارُهُ الْعِتْقَ الْمُبْهَمَ فِي أَحَدِهِمَا عَيْنًا شَرْطٌ لِنُزُولِ الْعِتْقِ فِيهِ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ.
وَهَذَا التَّخْرِيجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْعِتْقَ غَيْرُ نَازِلٍ فِي الْعَيْنِ فِيهِمَا.
فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِنُزُولِ الْعِتْقِ فِي أَحَدِهِمَا غَيْرُ عَيْنٍ فَهُوَ أَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَا صِحَّةِ لَهَا بِدُونِ الْمِلْكِ فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهَا يَكُونُ اخْتِيَارًا لِلْمِلْكِ فِي الْمُتَصَرَّفِ فِيهِ فَتَعَيَّنَ الْآخَرُ؛ فَيُعْتَقُ ضَرُورَةً مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ الْمَوْلَى نَصًّا وَدَلَالَةً، كَمَا إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ أَوْ قُتِلَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَيْعُ بَتًّا أَوْ فِيهِ خِيَارٌ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ التَّنْجِيزِ؛ فَلِأَنَّهُ لَا صِحَّةَ لِلْبَيْعِ إلَّا بِالْمِلْكِ فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى بَيْعِ أَحَدِهِمَا اخْتِيَارًا إيَّاهُ لِلْمِلْكِ؛ فَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ ضَرُورَةً.
وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ التَّعْلِيقِ، أَمَّا خِيَارُ الْمُشْتَرِي فَلَا يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ بِلَا خِلَافٍ فِينَا فِي اخْتِيَارِ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ فِيهِ.
وَأَمَّا اخْتِيَارُ الْبَائِعِ؛ فَلِأَنَّ اخْتِيَارَ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ يُبْطِلُ شَرْطَ الْخِيَارِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ مُزِيلًا لِلْمِلْكِ فَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ دَلَالَةً أَوْ ضَرُورَةً، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْبِضْ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا بَيْعًا فَاسِدًا وَقَبَضَ الْمُشْتَرِي، عَتَقَ الْبَاقِي وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْبِضْ مَاذَا حُكْمُهُ؟ وَهَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْإِمْلَاءِ إذَا وَهَبَ أَحَدَهُمَا وَأَقْبَضَهُ أَوْ تَصَدَّقَ وَأَقْبَضَ، عَتَقَ الْآخَرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَنَا، وَلَمْ يَذْكُرْ حَالَ عَدَمِ الْقَبْضِ، وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَيَتَعَيَّنُ الْعِتْقُ فِي الْآخَرِ سَوَاءٌ قَبَضَ الْمُشْتَرِي أَوْ لَمْ يَقْبِضْ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ وَقَالَ: قَدْ ظَهَرَ الْقَوْلُ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إذَا سَاوَمَ بِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ، وَقَعَ الْعِتْقُ فِي الْآخَرِ، وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِأَحَدِهِمَا أَوْ سَاوَمَ، عَتَقَ الْآخَرُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسَاوَمَةَ دُونَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَالسَّوْمُ لَمَّا كَانَ بَيَانًا فَالْبَيْعُ أَوْلَى، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ ذِكْرَ الْقَبْضِ فِي الْأَصْلِ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ بَلْ وَقَعَ ذِكْرُهُ اتِّفَاقًا أَوْ إشْعَارًا، أَنَّهُ مَعَ الْقَبْضِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمُزِيلَةِ لِلْمِلْكِ، وَلَوْ عَلَّقَ عِتْقَ أَحَدِهِمَا عَيْنًا بِشَرْطٍ بِأَنْ قَالَ لَهُ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ، عَتَقَ الْآخَرُ أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ التَّنْجِيزِ؛ فَلِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِمَا سِوَى الْمِلْكِ وَسَبَبِهِ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ؛ فَكَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى تَعْلِيقِ عِتْقِهِ اخْتِيَارًا لِلْمِلْكِ فِيهِ فَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ ضَرُورَةً كَمَا لَوْ نَجَزَ الْعِتْقُ فِي أَحَدِهِمَا.
وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ التَّعْلِيقِ؛ فَلِأَنَّ اخْتِيَارَ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ فِيهِ يُبْطِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَصَارَ كَمَا لَوْ دَبَّرَ أَحَدَهُمَا، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِأَحَدِهِمَا: إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ قَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ، ثُمَّ دَخَلَ الَّذِي عَلَّقَ عِتْقَهُ بِدُخُولِ الدَّارِ حَتَّى عَتَقَ، الْآخَرُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى زَالَ عَنْ أَحَدِهِمَا لِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ ابْتِدَاءً أَوْ بَاعَهُ.
وَلَوْ كَانَ الْمَمْلُوكَانِ أُخْتَيْنِ فَوَطِئَ الْمَوْلَى إحْدَاهُمَا فَإِنْ عَلِقَتْ مِنْهُ، عَتَقَتْ الْأُخْرَى بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِيلَادَ يَكُونُ مُعِينًا لِلْعِتْقِ فِي الْأُخْرَى، وَإِنْ لَمْ تَعْلَقْ لَا تُعْتَقُ الْأُخْرَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تُعْتَقُ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَّلَ إحْدَاهُمَا بِشَهْوَةٍ أَوْ لَمَسَ بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا عَنْ شَهْوَةٍ وَلَوْ اسْتَخْدَمَ إحْدَاهُمَا لَا تُعْتَقُ الْأُخْرَى فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ تَصَرُّفٌ لَا يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ إذْ قَدْ يَسْتَخْدِمُ الْحُرَّةَ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْعَاقِلِ الْمُتَدَيِّنِ الْإِقْدَامُ عَلَى الْوَطْءِ الْحَلَالِ لَا الْحَرَامِ، وَحِلُّ الْوَطْءِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَحَدِ نَوْعَيْ الْمِلْكِ وَلَمْ يُوجَدْ هاهنا مِلْكُ النِّكَاحِ؛ فَتَعَيَّنَ مِلْكُ الْيَمِينِ لِلْحِلِّ، وَإِذَا تَعَيَّنَتْ الْمَوْطُوءَةُ لِلْمِلْكِ تَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِلْعِتْقِ؛ وَلِأَنَّ الْوَطْءَ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ بَيَانًا فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَقَعَ اخْتِيَارُهُ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ؛ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ وَطِئَ حُرَّةً مِنْ غَيْرِ نِكَاحٍ فَيُجْعَلُ الْوَطْءُ بَيَانًا ضَرُورَةَ التَّحَرُّجِ عَنْ الْحَرَامِ حَالًا وَمَآلًا، حَتَّى لَوْ قَالَ: إحْدَاكُمَا مُدَبَّرَةٌ، ثُمَّ وَطِئَ إحْدَاهُمَا، لَا يَكُونُ بَيَانًا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يُزِيلُ مِلْكَ الِاسْتِمْتَاعِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّحَرُّزِ بِالْبَيَانِ؛ وَلِهَذَا جَعَلَ الْوَطْءَ بَيَانًا فِي الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ حَتَّى لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ، فَوَطِئَ إحْدَاهُمَا طَلُقَتْ الْأُخْرَى، كَذَا هاهنا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَوْنَ الْوَطْءِ بَيَانًا لِلْعِتْقِ فِي غَيْرِ الْمَوْطُوءَةِ يَسْتَدْعِي نُزُولَ الْعِتْقِ؛ لِيَكُونَ الْعِتْقُ تَعْيِينًا لِلْمُعْتَقَةِ مِنْهُمَا، وَالْعِتْقُ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ غَيْرُ نَازِلٍ؛ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الدَّلَائِلِ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ: إنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ مِنْهُمَا بَلْ هُوَ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ الِاخْتِيَارِ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ جَعَلَ الْوَطْءَ دَلَالَةَ الِاخْتِيَارِ وَلَمْ يُجْعَلْ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي بَابِ النِّكَاحِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الزَّوْجِ شَرْعًا؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: إنَّ الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الْوَطْءُ وَالنَّفَقَةُ، وَإِذَا كَانَ الْوَطْءُ مُسْتَحَقًّا بِالنِّكَاحِ عِنْدَ اخْتِيَارِ الْإِمْسَاكِ فَإِذَا قَصَدَ وَطْءَ إحْدَاهُمَا صَارَ مُخْتَارًا لِإِمْسَاكِهَا فَيَلْزَمُهُ إيفَاءُ الْمُسْتَحَقِّ شَرْعًا ضَرُورَةَ اخْتِيَارِ الْإِمْسَاكِ فَيَصِيرُ مُخْتَارًا طَلَاقَ الْأُخْرَى، وَالْوَطْءُ فِي الْأَمَةِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِحَالٍ فَلَا يَكُونُ وَطْءُ إحْدَاهُمَا اخْتِيَارًا لِلْعِتْقِ فِي الْأُخْرَى لَوْ صَارَ مُخْتَارًا لِلْإِمْسَاكِ إنَّمَا يَصِيرُ؛ لِيَقَعَ وَطْؤُهُ حَلَالًا تَحَرُّجًا عَنْ الْحُرْمَةِ وَوَطْؤُهُ إيَّاهُمَا جَمِيعًا حَلَالٌ، وَبِاخْتِيَارِ إحْدَاهُمَا لَا يَظْهَرُ أَنَّ وَطْءَ الْمَوْطُوءَةِ كَانَ حَرَامًا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ ثَبَتَ حَالَ الِاخْتِيَارِ مَقْصُورًا عَلَيْهَا.
وَأَمَّا الضَّرُورَةُ فَنَحْوُ أَنْ يَمُوتَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ فَيُعْتَقُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحِلًّا لِاخْتِيَارِ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ فَتَعَيَّنَ الْآخَرُ ضَرُورَةً مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْمَوْلَى لَا نَصًّا وَلَا دَلَالَةً، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ غَيْرُ نَازِلٍ إذْ لَوْ كَانَ نَازِلًا، لَمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ ضَرُورَةُ عَدَمِ الْمَحِلِّ وَلَا ضَرُورَةَ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ كَانَ مَحِلًّا لِلْبَيَانِ إذْ الْبَيَانُ تَعْيِينٌ لِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِتْقُ بِالْإِيجَابِ السَّابِقِ وَقْتَ وُجُودِهِ وَكَانَ حَيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا أَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي يَتَعَيَّنُ فِي الْمَيِّتِ مِنْهُمَا وَلَا يَتَعَيَّنُ فِي الْحَيِّ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ وُجِدَ الْمُسْقِطُ لِلْخِيَارِ فِي الْمَيِّتِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَهُوَ حُدُوثُ الْعَيْبِ فِيهِ، إذْ الْمَوْتُ لَا يَخْلُو عَنْ مُقَدِّمَةِ مَرَضٍ عَادَةً، فَحُدُوثُ الْعَيْبِ فِيهِ يُبْطِلُ خِيَارَ الْمُشْتَرِي فِيهِ؛ فَيَتَعَيَّنُ بِالْبَيْعِ فَيَتَعَيَّنُ الْحَيُّ لِلرَّدِّ، وَهَاهُنَا حُدُوثُ الْعَيْبِ فِي أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ تَعْيِينَهُ لِلْمِلْكِ قَبْلَ الْمَوْتِ فَيَتَعَيَّنُ لِلْمَوْتِ فَيَتَعَيَّنْ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ ضَرُورَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: أَحَدُ هَذَيْنِ ابْنِي أَوْ أَحَدُ هَاتَيْنِ أُمُّ وَلَدَيْ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ الْآخَرُ لِلْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِيلَادِ، كَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَحَدُ هَاتَيْنِ أُمُّ وَلَدِي، أَوْ أَحَدُ هَذَيْنِ ابْنِي، لَيْسَ بِإِنْشَاءٍ بَلْ هُوَ إخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ سَابِقٍ وَالْإِخْبَارُ يَصِحُّ فِي الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ فَيَقِفُ عَلَى بَيَانِهِ، وَقَوْلُهُ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ، أَوْ أَحَدُ هَذَيْنِ حُرٌّ إنْشَاءٌ لِلْحُرِّيَّةِ فِي أَحَدِهِمَا، وَالْإِنْشَاءُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْحَيِّ، فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْحُرِّيَّةِ، وَكَذَا إذَا قُتِلَ أَحَدُهُمَا سَوَاءٌ قَتَلَهُ الْمَوْلَى أَوْ أَجْنَبِيٌّ؛ لِمَا قُلْنَا، غَيْرَ أَنَّ الْقَتْلَ إنْ كَانَ مِنْ الْمَوْلَى فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ لِلْمَوْلَى، فَإِنْ اخْتَارَ الْمَوْلَى عِتْقَ الْمَقْتُولِ لَا يَرْتَفِعُ الْعِتْقُ عَنْ الْحَيِّ وَلَكِنْ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ تَكُونُ لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى قَدْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ قِيمَتِهِ، فَإِنْ قُطِعَتْ يَدُ أَحَدِهِمَا لَا يُعْتَقُ الْآخَرُ سَوَاءٌ كَانَ الْقَطْعُ مِنْ الْمَوْلَى أَوْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يَقْطَعُ خِيَارَ الْمَوْلَى لِبَقَاءِ مَحَلِّ الْخِيَارِ بِخِلَافِ الْقَتْلِ فَإِنْ قَطَعَ أَجْنَبِيٌّ يَدَ أَحَدِهِمَا ثُمَّ بَيَّنَ الْمَوْلَى الْعِتْقَ فَإِنْ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَالْأَرْشُ لِلْمَوْلَى بِلَا شَكٍّ، وَإِنْ بَيَّنَهُ فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ أَنَّ الْأَرْشَ لِلْمَوْلَى أَيْضًا وَلَا شَيْءَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْأَرْشِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ إنَّ الْأَرْشَ يَكُونُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِيمَا إذَا قَطَعَ الْمَوْلَى، ثُمَّ بَيَّنَ الْعِتْقَ أَنَّهُ إنْ بَيَّنَهُ فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَرْشُ الْأَحْرَارِ وَيَكُونُ لِلْعَبْدِ، وَعَلَّلَ بِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ جَنَى عَلَى حُرٍّ، وَإِنْ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْلَى.
وَلَمْ يَذْكُرْ الْقُدُورِيُّ هَذَا الْفَصْلَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ فَصْلَ الْأَجْنَبِيِّ، وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي قِيَاسُ مَذْهَبِ التَّنْجِيزِ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ يَكُونُ تَعْيِينًا لِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِتْقُ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا وَقْتَ وُرُودِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ؛ فَيُوجِبُ أَرْشَ الْأَحْرَارِ عَلَى الْمَوْلَى لِلْعَبْدِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ قِيَاسُ مَذْهَبِ التَّعْلِيقِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ ثَبَتَ وَقْتَ الِاخْتِيَارِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ فَلَا يَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ صَادَفَتْ يَدَ حُرٍّ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَلَوْ قَالَ: عَبْدِي حُرٌّ، وَلَيْسَ لَهُ إلَّا عَبْدٌ وَاحِدٌ عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ بِالْإِيجَابِ فَانْصَرَفَ إلَيْهِ، فَإِنْ قَالَ: لِي عَبْدٌ آخَرُ عَنَيْتُهُ، لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ لَهُ عَبْدٌ آخَرُ انْصَرَفَ إيجَابُهُ إلَى هَذَا الْعَبْدِ ظَاهِرًا، فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْعُدُولِ عَنْ الظَّاهِرِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ عَلَى أَنَّ لَهُ عَبْدًا آخَرَ، وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ.
وَلَوْ قَالَ: أَحَدُ عَبِيدِي حُرٌّ، أَوْ أَحَدُ عَبْدَيَّ حُرٌّ وَلَيْسَ لَهُ إلَّا عَبْدٌ وَاحِدٌ عَتَقَ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ أَحَدُ لَا تَقْتَضِي آحَادًا، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ أَحَدٌ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَلَا مِثْلَ لَهُ وَلَا شَرِيكَ، وَلَا أَحَدَ غَيْرُهُ فِي الْأَزَلِ.
وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ فَقَالَ: أَحَدُ عَبِيدِي حُرٌّ، أَحَدُ عَبِيدِي حُرٌّ، أَحَدُ عَبِيدِي حُرٌّ قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا عَتَقُوا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمْ عَتَقَ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ عَبِيدِهِ وَعَتَقَ الْآخَرُ بِاللَّفْظِ الثَّانِي لِهَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ بَقِيَ لَهُ عَبْدَانِ فَيُعْتَقُ أَحَدَهُمَا، وَعَتَقَ الثَّالِثُ بِاللَّفْظِ الثَّالِثِ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ إلَّا عَبْدٌ وَاحِدٌ، كَمَا لَوْ قَالَ ابْتِدَاءً: أَحَدُ عَبِيدِي حُرٌّ، وَلَيْسَ لَهُ إلَّا عَبْدٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ قَالَ: أَحَدُكُمْ حُرٌّ، أَحَدُكُمْ حُرٌّ أَحَدُكُمْ حُرٌّ لَمْ يُعْتَقْ إلَّا وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمْ عَتَقَ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ بِاللَّفْظِ الثَّانِي جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدَيْنِ فَقَالَ: أَحَدُكُمْ حُرٌّ، لَمْ يَصِحَّ، ثُمَّ بِاللَّفْظِ الثَّالِثِ جَمَعَ بَيْنِ عَبْدٍ وَحُرَّيْنِ فَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْإِخْبَارِ وَهُوَ صَادِقٌ فِيمَا أَخْبَرَ.
وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ أَوْ مُدَبَّرٌ، يُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ فَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ بِهِ الْحُرِّيَّةَ، عَتَقَ، وَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ بِهِ التَّدْبِيرَ، صَارَ مُدَبَّرًا، وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ وَالْقَوْلُ فِي الصِّحَّةِ، عَتَقَ نِصْفُهُ بِالْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ وَنِصْفُهُ بِالتَّدْبِيرِ لِشُيُوعِ الْعِتْقَيْنِ فِيهِ، إلَّا أَنَّ نِصْفَهُ يُعْتَقُ مَجَّانًا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يُعْتَقُ بِالْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ، وَنِصْفُهُ يُعْتَقُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ يُعْتَقُ بِالتَّدْبِيرِ، وَالْعِتْقُ بِالتَّدْبِيرِ يَثْبُتُ مِنْ طَرِيقِ الْوَصِيَّةِ فَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ سَوَاءٌ كَانَ التَّدْبِيرُ فِي الْمَرَضِ أَوْ فِي الصِّحَّةِ، إنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ عَتَقَ كُلُّ النِّصْفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ عَتَقَ ثُلُثُ النِّصْفِ مَجَّانًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ، وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ النِّصْفِ وَهُوَ ثُلُثُ الْكُلِّ.
وَلَوْ كَانَا عَبْدَيْنِ فَقَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ أَوْ مُدَبَّرٌ يُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمَا وَالْقَوْلُ فِي الصِّحَّةِ عَتَقَ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلشُّيُوعِ إلَّا أَنَّ الرُّبْعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُعْتَقُ مَجَّانًا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لِحُصُولِهِ بِالْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ، وَالرُّبْعُ يُعْتَقُ مِنْ أُصُولِهِ بِالتَّدْبِيرِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتُمَا حُرَّانِ أَوْ مُدَبَّرَانِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، عَتَقَ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ وَنِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّدْبِيرِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْقَوْلُ فِي الصِّحَّةِ فَإِنْ كَانَ فِي الْمَرَضِ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ الثُّلُثِ.
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ فَقَالَ: هَذَا حُرٌّ، أَوْ هَذَا، وَهَذَا عَتَقَ الثَّالِثُ وَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ فِي الْأَوَّلَيْنِ، وَلَوْ قَالَ: هَذَا حُرٌّ، وَهَذَا، أَوْ هَذَا، عَتَقَ الْأَوَّلُ وَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ فِي الْآخَرَيْنِ.
وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الطَّلَاقِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ دَخَلَتْ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي؛ فَأَوْجَبَتْ حُرِّيَّةَ أَحَدِهِمَا غَيْرُ عَيْنٍ ثُمَّ الثَّالِثُ عُطِفَ عَلَى الْحُرِّ مِنْهُمَا أَيَّهُمَا كَانَ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ، وَهَذَا.
وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي أَوْجَبَ الْحُرِّيَّةَ لِلْأَوَّلِ عَيْنًا، ثُمَّ أَدْخَلَ كَلِمَةَ أَوْ فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَأَوْجَبَتْ حُرِّيَّةَ أَحَدِهِمَا غَيْرِ عَيْنٍ فَعَتَقَ الْأَوَّلُ، وَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: إنْ كَلَّمْتُ هَذَا أَوْ هَذَا وَهَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ، أَنَّهُ إنْ كَلَّمَ الْأَوَّلَ وَحْدَهُ حَنِثَ، وَإِنْ كَلَّمَ الثَّانِيَ أَوْ الثَّالِثَ وَحْدَهُ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يُكَلِّمْهُمَا جَمِيعًا.
وَلَوْ قَالَ: إنْ كَلَّمْتُ هَذَا وَهَذَا، أَوْ هَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ.
فَإِنْ كَلَّمَ الثَّالِثَ وَحْدَهُ حَنِثَ، وَإِنْ كَلَّمَ الْأَوَّلَ أَوْ الثَّانِيَ وَحْدَهُ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يُكَلِّمْهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ كَلَامَ الْأَوَّلِ وَحْدَهُ أَوْ كَلَامَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الثَّالِثَ مَعْطُوفًا عَلَى الثَّانِي بِحَرْفِ الْعَطْفِ فَقَدْ أَدْخَلَ كَلِمَةَ أَوْ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَحْدَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ جَمِيعًا.
وَأَمَّا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فَقَدْ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ كَلَامَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي جَمِيعًا أَوْ كَلَامَ الثَّالِثِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ وَأَدْخَلَ كَلِمَةَ أَوْ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي جَمِيعًا، وَالثَّالِثُ وَحْدَهُ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَلَوْ اخْتَلَطَ حُرٌّ بِعَبْدٍ كَرَجُلٍ لَهُ عَبْدٌ فَاخْتَلَطَ بِحُرٍّ، ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ: أَنَا حُرٌّ، وَالْمَوْلَى يَقُولُ: أَحَدُكُمَا عَبْدِي، كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُحَلِّفَهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ حُرٌّ فَإِنْ حَلِف لِأَحَدِهِمَا وَنَكَلَ لِلْآخَرِ، فَاَلَّذِي نَكَلَ لَهُ حُرٌّ دُونَ الْآخَرِ، وَإِنْ نَكَلَ لَهُمَا فَهُمَا حُرَّانِ وَإِنْ حَلِفَ لَهُمَا فَقَدْ اخْتَلَطَ الْأَمْرُ، فَالْقَاضِي يَقْضِي بِالِاخْتِلَاطِ وَيُعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَنِصْفَهُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ، وَكَذَا لَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُهُ وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا عَشْرَةٌ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ، وَهَذَا كَرَجُلٍ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ بِعَيْنِهِ ثُمَّ نَسِيَهُ فَإِنْ بَيَّنَ فَهُوَ عَلَى مَا بَيَّنَ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ وَقَالَ: لَا أَدْرِي أَيُّهُمَا حُرٌّ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ وَلَكِنْ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ مَجَّانًا وَنِصْفُهُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى.
فَهُوَ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا قَالَ لِعَبْدَيْهِ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ لَا يَنْوِي أَحَدَهُمَا بِعَيْنِهِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ عَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ الْبَيَانِ وَالِاخْتِيَارِ، إذْ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَهَذَا الْخِيَارُ لَا يُوَرَّث حَتَّى يَقُومَ الْوَارِثُ فِيهِ مَقَامَهُ فَيَشِيعُ الْعِتْقُ فِيهِمَا، إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ مَجَّانًا وَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ، وَفَصْلُ الشُّيُوعِ دَلِيلُ نُزُولِ الْعِتْقِ فِي أَحَدِهِمَا، إذْ الثَّابِتُ تَشْيِيعٌ وَالْمَوْتُ لَيْسَ بِإِعْتَاقٍ، عُلِمَ أَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ وَقَعَ تَنْجِيزًا لِلْعِتْقِ فِي أَحَدِهِمَا ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا الْخِيَارِ وَبَيْنَ خِيَارِ التَّعْيِينِ فِي بَابِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ هُنَاكَ يَقُومُ مَقَامَ الْمَوْتِ فِي الْبَيَانِ، وَهَاهُنَا لَا.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ هُنَاكَ مَلَكَ الْمُشْتَرِي أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ مَجْهُولًا، إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحِلٌّ لِلْمِلْكِ، فَإِذَا مَاتَ فَالْوَارِثُ وَرِثَ مِنْهُ عَبْدًا مَجْهُولًا، فَمَتَى جَرَى الْإِرْثُ ثَبَتَ وِلَايَةُ التَّعْيِينِ، أَمَّا هاهنا فَأَحَدُهُمَا حُرٌّ أَوْ اسْتَحَقَّ الْحُرِّيَّةَ وَذَلِكَ يَمْنَعُ جَرَيَانَ الْإِرْثِ فِي أَحَدِهِمَا فَيَمْنَعُ وِلَايَةَ التَّعْيِينِ، هَذَا إذَا كَانَ الْمُزَاحِمُ لَهُ مُحْتَمِلًا لِلْعِتْقِ وَهُوَ مِمَّنْ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ فِيهِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ فِيهِ بِأَنْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ فَقَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ لَا يُعْتَقُ عَبْدُهُ إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَحَدُكُمَا يَحْتَمِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ عَبْدَ الْغَيْرِ قَابِلٌ لِلْعِتْقِ فِي نَفْسِهِ وَمُحْتَمِلٌ لِنُفُوذِ الْإِعْتَاقِ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا يَنْصَرِفُ إلَى عَبْدِ نَفْسِهِ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُزَاحِمُ مِمَّنْ لَا يَحْتَمِلُ الْعِتْقَ أَصْلًا، كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَبَيْنَ بَهِيمَةٍ أَوْ حَائِطٍ أَوْ حَجَرٍ فَقَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ، أَوْ قَالَ: عَبْدِي حُرٌّ، أَوْ هَذَا وَهَذَا فَإِنَّ عَبْدَهُ يُعْتَقُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يُعْتَقُ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَكَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَبَيْنَ مَيِّتٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَعَلَى هَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَبَيْنَ حُرٍّ فَقَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ، أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ عَبْدُهُ إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّ صِيغَتَهُ صِيغَةُ الْخَبَرِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِخْبَارِ وَهُوَ صَادِقٌ فِي إخْبَارِهِ مَعَ مَا فِي الْحَمْلِ عَلَيْهِ تَصْحِيحُ تَصَرُّفِهِ وَأَنَّهُ أَصْلٌ عِنْدَ الْإِمْكَانِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ، إلَّا إذَا نَوَى فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِنْشَاءِ بِقَرِينَةِ النِّيَّةِ، وَالْحُرُّ لَا يَحْتَمِلُ إنْشَاءَ الْحُرِّيَّةِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْعَبْدِ.
وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَمُدَبَّرِهِ فَقَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ لَا يَصِيرُ عَبْدُهُ مُدَبَّرًا إلَّا بِالنِّيَّةِ وَيُحْمَلُ عَلَى الْإِخْبَارِ كَمَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ.
وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدَيْهِ وَمُدَبَّرِهِ فَقَالَ: اثْنَانِ مِنْكُمْ مُدَبَّرَانِ صَارَ أَحَدُ عَبْدَيْهِ مُدَبَّرًا وَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: اثْنَانِ مِنْكُمْ، يُصْرَفُ أَحَدُهُمَا إلَى الْمُدَبَّرِ وَيَكُونُ إخْبَارًا عَنْ تَدْبِيرِهِ، إذْ الصِّيغَةُ لِلْخَبَرِ فِي الْوَضْعِ وَهُوَ صَادِقٌ فِي هَذَا الْإِخْبَارِ، وَالْآخَرُ يُصْرَفُ إلَى أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ فَيَكُونُ إنْشَاءً لِلتَّدْبِيرِ فِي أَحَدِهِمَا إذْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ كَذِبًا فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِنْشَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ لِلْمُدَبَّرِ: هَذَا مُدَبَّرٌ، وَأَحَدُ الْعَبْدَيْنِ مُدَبَّرٌ؛ فَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ كَمَا لَوْ قَالَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً لِعَبْدَيْهِ: أَحَدُكُمَا مُدَبَّرٌ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْبَيَانِ انْقَسَمَ تَدْبِيرُ رَقَبَةٍ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ نِصْفَيْنِ، فَيُعْتَقُ الْمُدَبَّرُ الْمَعْرُوفُ مِنْ الثُّلُثِ وَيُعْتَقُ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَرَضِ أَوْ فِي الصِّحَّةِ.
وَهَذَا كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدَيْنِ وَحُرٍّ فَقَالَ: اثْنَانِ مِنْكُمْ حُرَّانِ، أَنَّهُ يُصْرَفُ أَحَدُهُمَا إلَى الْإِخْبَارِ عَنْ حُرِّيَّةِ أَحَدِهِمْ وَالْآخَرُ إلَى إنْشَاءِ الْحُرِّيَّةِ فِي أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ لَا غَيْرُ، كَأَنَّهُ قَالَ لِلْحُرَّانِ: هَذَا حُرٌّ، وَأَحَدُ الْعَبْدَيْنِ حُرٌّ، فَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ عَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ لِشُيُوعِ الْعِتْقِ فِيهِمَا، كَذَا هَذَا.
وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ دَخَلَ عَلَيْهِ اثْنَانِ فَقَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ خَرَجَ أَحَدُهُمَا وَدَخَلَ الْآخَرُ فَقَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ فَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأَصْلِ يَقَعُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَتَعَلَّقُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَالثَّانِي يَتَعَلَّقُ بِحَالِ الْمَوْتِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا دَامَ الْمَوْلَى حَيًّا يُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ ثُمَّ إنْ بَدَأَ بِالْبَيَانِ لِلْإِيجَابِ الْأَوَّلِ فَإِنْ عَنَى بِهِ الْخَارِجَ عَتَقَ الْخَارِجُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ إيجَابَ الثَّانِي بَيْنَ الثَّابِتِ وَالدَّاخِلِ وَقَعَ صَحِيحًا؛ لِوُقُوعِهِ بَيْنَ عَبْدَيْنِ فَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ لِهَذَا الْإِيجَابِ، وَإِنْ عَنَى بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلَ الثَّابِتَ عَتَقَ الثَّابِتُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْإِيجَابَ الثَّانِيَ وَقَعَ لَغْوًا؛ لِحُصُولِهِ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: الْكَلَامُ الثَّانِي يَنْصَرِفُ إلَى الدَّاخِلِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ عَلَى قَوْلِهِ إذَا جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فَقَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ يَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى الْعَبْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ بَدَأَ بِالْبَيَانِ لِلْإِيجَابِ الثَّانِي فَإِنْ عَنَى بِهِ الدَّاخِلَ عَتَقَ الدَّاخِلُ عَتَقَ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي، وَبَقِيَ الْإِيجَابُ الْأَوَّلُ بَيْنَ الْخَارِجِ وَالثَّابِتِ عَلَى حَالِهِ كَمَا كَانَ، فَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ كَمَا كَانَ وَإِنْ عَنَى بِهِ الثَّابِتَ عَتَقَ الثَّابِتُ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي وَعَتَقَ الْخَارِجُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ؛ لِتَعْيِينِهِ لِلْعِتْقِ بِإِعْتَاقِ الثَّابِتِ.
وَأَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَهاَهُنَا حَالَانِ: حَالُ مَا بَعْدَ مَوْتِ الْعَبْدَيْنِ وَحَالُ مَا بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى أَمَّا مَوْتُ الْعَبْدَيْنِ: فَإِنْ مَاتَ الْخَارِجُ عَتَقَ الثَّابِتُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْإِيجَابَ الثَّانِي وَقَعَ بَاطِلًا، وَإِنْ مَاتَ الثَّابِتُ عَتَقَ الْخَارِجُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ وَالدَّاخِلُ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ قَدْ أُعِيدَ عَلَيْهِ الْإِيجَابُ فَعِتْقُهُ يُوجِبُ تَعْيِينَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْعِتْقِ، وَإِنْ مَاتَ الدَّاخِلُ يُؤْمَرُ الْمَوْلَى بِالْبَيَانِ لِلْإِيجَابِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ عَنَى بِهِ الْخَارِجَ عَتَقَ الْخَارِجُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ وَبَقِيَ الْإِيجَابُ الثَّانِي بَيْنَ الدَّاخِلِ وَالثَّابِتِ، فَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ، وَإِنْ عَنَى بِهِ الثَّابِتَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِيجَابَ الثَّانِي وَقَعَ بَاطِلًا.
وَأَمَّا مَوْتُ الْمَوْلَى قَبْلَ الْبَيَانِ فَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ مِنْهُ فِي الصِّحَّةِ يُعْتَقُ مِنْ الْخَارِجِ نِصْفُهُ، وَمِنْ الثَّابِتِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الدَّاخِلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: يُعْتَقُ مِنْ الدَّاخِلِ نِصْفُهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: رُبْعُهُ أَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الْوِفَاقِ؛ فَلِأَنَّ الْمَوْلَى إنْ كَانَ عَنَى بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ الْخَارِجَ عَتَقَ كُلُّهُ وَلَمْ يُعْتَقْ بِهِ الثَّابِتُ، وَإِنْ كَانَ عَنَى بِهِ الثَّابِتَ عَتَقَ الثَّابِتُ كُلُّهُ وَلَمْ يُعْتَقْ بِهِ الْخَارِجُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُعْتَقُ فِي حَالٍ وَلَا يُعْتَقُ فِي حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ فَيُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ الثَّابِتُ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي يُعْتَقُ نِصْفُهُ الْبَاقِي فِي حَالٍ وَلَا يُعْتَقُ فِي حَالٍ، فَيَتَنَصَّفُ ذَلِكَ النِّصْفُ فَيُعْتَقُ رُبْعُهُ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي وَقَدْ عَتَقَ نِصْفُهُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ؛ فَيُعْتَقُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ.
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْخِلَافِ، فَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَهُوَ أَنَّ الْإِيجَابَ الثَّانِيَ يَصِحُّ فِي حَالٍ وَلَا يَصِحُّ فِي حَالٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَوْلَى عَنَى بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ الْخَارِجَ يَصِحُّ الْإِيجَابُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ يَبْقَى رَقِيقًا فَيَقَعُ الْإِيجَابُ الثَّانِي جَمْعًا بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ فَيَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ عَنَى بِهِ الثَّابِتَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ جَمْعًا بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فَيَلْغُو؛ فَيَصِحُّ الْإِيجَابُ الثَّانِي فِي حَالٍ وَلَمْ يَصِحَّ فِي حَالٍ فَلَا يُثْبِتُ إلَّا نِصْفَ حُرِّيَّةٍ فَيُقْسَمُ بَيْنَ الثَّابِتِ وَالدَّاخِلِ، فَيُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّبْعُ، وَلَهُمَا أَنَّ الْإِيجَابَ الثَّانِي إنَّمَا يَدُورُ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْبُطْلَانِ إذَا نَزَلَ الْعِتْقُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ مِنْهُمَا وَلَمْ يَنْزِلْ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ فِيمَا تَقَدَّمَ فَكَانَ الْإِيجَابُ الثَّانِي صَحِيحًا فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا، فَلَمَّا مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْبَيَانِ أَصَابَ الدَّاخِلَ مِنْ هَذَا الْإِيجَابِ نِصْفُ حُرِّيَّةٍ، ثُمَّ إنْ كَانَ عَنَى بِهِ الثَّابِتَ عَتَقَ بِهِ النِّصْفُ الْبَاقِيَ وَلَا يُعْتَقُ الدَّاخِلُ، وَإِنْ كَانَ عَنَى بِهِ الدَّاخِلَ عَتَقَ كُلُّهُ وَلَا يُعْتَقُ شَيْءٌ مِنْ النِّصْفِ الْبَاقِي مِنْ الثَّابِتِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَثْبُتُ فِي حَالٍ وَلَا يَثْبُتُ فِي حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ فَيُعْتَقُ مِنْ الثَّابِتِ رُبْعُهُ وَمِنْ الدَّاخِلِ نِصْفُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ غَيْرُ سَدِيدٍ أَنَّ الْإِيجَابَ الثَّانِيَ لَوْ كَانَ تَرَدَّدَ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَعَدَمِ الصِّحَّةِ لَبَطَلَ أَصْلًا وَرَأْسًا؛ لِأَنَّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ، وَقَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ، يَبْطُلُ أَصْلًا وَرَأْسًا وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ الْإِيجَابَ الثَّانِيَ حَيْثُ قَالَ بِثُبُوتِ نِصْفِ حُرِّيَّةٍ بَيْنَ الثَّابِتِ وَالدَّاخِلِ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَوْلُ مِنْهُ فِي الصِّحَّةِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَرَضِ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ آخَرُ، يَخْرُجُونَ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ لَا يَخْرُجُونَ، لَكِنْ إنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَى هَؤُلَاءِ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ، يُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ وَصِيَّتِهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ نَفَاذُهَا مِنْ الثُّلُثِ؛ فَيُضْرَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمِقْدَارِ وَصِيَّتِهِ، فَوَصِيَّةُ الْخَارِجِ نِصْفُ الرَّقَبَةِ وَوَصِيَّةُ الثَّالِثِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الرَّقَبَةِ وَوَصِيَّةُ الدَّاخِلِ نِصْفُ الرَّقَبَةِ عَلَى أَصْلِهِمَا، فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ؛ لِحَاجَتِنَا إلَى ثَلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ، فَالْخَارِجُ يُضْرَبُ بِنِصْفِ الرَّقَبَةِ وَذَلِكَ سَهْمَانِ وَالثَّابِتُ يُضْرَبُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الرَّقَبَةِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَالدَّاخِلُ يُضْرَبُ بِنِصْفِ الرَّقَبَةِ وَذَلِكَ سَهْمَانِ، فَتُجْمَعُ وَصَايَاهُمْ فَتَصِيرُ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ، فَيُجْعَلُ ثُلُثُ الْمَالِ مَبْلَغَ الْوَصَايَا وَذَلِكَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ، فَيَكُونُ ثُلُثَا الْمَالِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا ضَرُورَةً فَيَكُونُ جَمِيعُ الْمَالِ أَحَدَ وَعِشْرِينَ، فَصَارَ كُلُّ عَبْدٍ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّ مَالَهُ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ وَقَدْ صَارَ مَالُهُ كُلُّهُ أَحَدَ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، فَيُخْرَجُ مِنْهُ سِهَامُ الْعِتْقِ وَسِهَامُ السِّعَايَةِ فَالْخَارِجُ يُعْتَقُ مِنْهُ سَهْمَانِ مِنْ سَبْعَةٍ وَيَسْعَى فِي خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، وَالثَّابِتُ يُعْتَقُ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ سَبْعَةٍ وَيَسْعَى فِي أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ.
وَالدَّاخِلُ يُعْتَقُ مِنْهُ سَهْمَانِ مِنْ سَبْعَةٍ وَيَسْعَى فِي خَمْسَةِ أَسْهُمٍ كَالْخَارِجِ، وَإِذَا صَارَ سِهَامُ الْوَصَايَا سَبْعَةً تَصِيرُ سِهَامُ الْوَرَثَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ضَرُورَةً، فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَهَذَا التَّخْرِيجُ عَلَى قَوْلِهِمَا.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَالْخَارِجُ يُضْرَبُ بِسَهْمَيْنِ وَالثَّابِتُ بِثَلَاثَةٍ وَالدَّاخِلُ بِسَهْمٍ فَذَلِكَ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، فَصَارَ ثُلُثُ الْمَالِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ فَيَكُونُ ثُلُثَاهُ مِثْلَيْهِ وَذَلِكَ اثْنَيْ عَشَرَ، فَيَصِيرُ جَمِيعُ الْمَالِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَصَارَ كُلُّ عَبْدٍ سِتَّةَ أَسْهُمٍ يَخْرُجُ مِنْهَا سِهَامُ الْعِتْقِ وَسِهَامُ السِّعَايَةِ، فَيُعْتَقُ مِنْ الْخَارِجِ سَهْمَانِ وَيَسْعَى فِي أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، وَيُعْتَقُ مِنْ الثَّابِتِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَيَسْعَى فِي ثَلَاثَةٍ وَيُعْتَقُ مِنْ الدَّاخِلِ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَيَسْعَى فِي خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، فَصَارَ لِلْوَرَثَةِ اثْنَيْ عَشَرَ وَلِأَصْحَابِ الْوَصَايَا سِتَّةٌ، فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْجَهَالَةُ الطَّارِئَةُ بِأَنْ أَضَافَ صِيغَةَ الْإِعْتَاقِ إلَى أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ ثُمَّ نَسِيَهُ فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَيْضًا فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّصَرُّفِ وَالثَّانِي فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ قَبْلَ الْبَيَانِ لِأَنَّ الصِّيغَةَ أُضِيفَتْ إلَى مُعَيَّنٍ وَالْمُعَيَّنُ مَحَلٌّ لِنُزُولِ الْعِتْقِ فِيهِ فَكَانَ الْبَيَانُ فِي هَذَا النَّوْعِ إظْهَارًا وَتَعْيِينًا لِمَنْ نَزَلَ فِيهِ الْعِتْقُ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَالْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ ضَرْبَانِ أَيْضًا: ضَرْبٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى، وَضَرْبٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ: إذَا أَعْتَقَ إحْدَى جَارِيَتَيْهِ بِعَيْنِهَا ثُمَّ نَسِيَهَا أَوْ أَعْتَقَ إحْدَى جَوَارِيهِ الْعَشَرَةِ بِعَيْنِهَا ثُمَّ نَسِيَ الْمُعْتَقَةَ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهِنَّ وَاسْتِخْدَامهنَّ؛ لِأَنَّ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ حُرَّةٌ بِيَقِينٍ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْحُرَّةُ وَوَطْءُ الْحُرَّةِ مِنْ غَيْرِ نِكَاحٍ حَرَامٌ فَلَوْ قَرَّبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ رُبَّمَا يَقْرَبُ الْحُرَّةَ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ صِيَانَةً عَنْ الْحَرَامِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، فَمَنْ حَامَ حَوْل الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَطَأَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِالتَّحَرِّي؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، فَلَوْ أَنَّهُ وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَحُكْمُهُ نَذْكُرُهُ هُنَا، وَالْحِيلَةُ فِي أَنْ يُبَاحَ لَهُ وَطْؤُهُنَّ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ فَتَحِلُّ لَهُ الْحُرَّةُ مِنْهُنَّ بِالنِّكَاحِ وَالرَّقِيقَةُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ.
وَلَوْ خَاصَمَ الْعَبْدَانِ الْمَوْلَى إلَى الْقَاضِي وَطَلَبَا مِنْهُ الْبَيَانَ أَمَرَهُ الْقَاضِي بِالْبَيَانِ وَلَوْ امْتَنَعَ حَبَسَهُ لَيُبَيِّنَ، كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ بِيَقِينٍ وَالْحُرِّيَّةُ حَقُّهُ أَوْ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، وَلِكُلِّ صَاحِبِ حَقٍّ أَنْ يَطْلُبَ حَقَّهُ، وَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِيفَاءِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ.
وَلَوْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ هُوَ الْحُرُّ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ وَجَحَدَ الْمَوْلَى فَطَلَبَا يَمِينَهُ اسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَعْتَقَهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ لِفَائِدَةِ النُّكُولِ وَالنُّكُولُ بَذْلٌ أَوْ إقْرَارٌ، وَالْعِتْقُ يَحْتَمِلُ كُلَّ ذَلِكَ، ثُمَّ إنْ نَكَلَ لَهُمَا عَتَقَا؛ لِأَنَّهُ بَذَلَ لَهُمَا الْحُرِّيَّةَ أَوْ أَقَرَّ بِهَا لَهُمَا، وَإِنْ حَلَفَ لَهُمَا يُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ بِيَقِينٍ وَحُرِّيَّتُهُ لَا تَرْتَفِعُ بِالْيَمِينِ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّد فِي الطَّلَاقِ يَكُونُ ذَلِكَ رِوَايَةً فِي الْعَتَاقِ وَهُوَ أَنَّهُمَا إذَا اسْتَحْلَفَا فَحَلَفَ الْمَوْلَى لِلْأَوَّلِ، يُعْتَقُ الَّذِي لَمْ يَحْلِفْ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَلَفَ لِلْأَوَّلِ: وَاَللَّهِ مَا أَعْتَقَهُ فَقَدْ أَقَرَّ بِرِقِّهِ فَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْحُرِّيَّةِ، كَمَا إذَا قَالَ ابْتِدَاءً لِأَحَدِهِمَا عَيْنًا: هَذَا عَبْدٌ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ لَهُ عَتَقَ هُوَ؛ لِأَنَّهُ بَذَلَ لَهُ الْحُرِّيَّةَ أَوْ أَقَرَّ.
وَإِنْ تَشَاحَّا فِي الْيَمِينِ حَلَفَ لَهُمَا جَمِيعًا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَعْتَقَ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَإِنْ حَلَفَ لَهُمَا فَإِنْ كَانَا أَمَتَيْنِ يُحْجَبُ مِنْهُمَا حَتَّى يُبَيِّنَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حُرِّيَّةَ إحْدَاهُمَا لَا تَرْتَفِعُ بِالْحَلِفِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ فِي الْجَهَالَةِ الطَّارِئَةِ إذَا لَمْ يَتَذَكَّرْ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِرْقَاقِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ بِيَقِينٍ بِخِلَافِ الْجَهَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ الْحُرِّيَّةِ غَيْرُ نَازِلَةٍ فِي الْمَحَلِّ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْبَيَانِ اسْتِرْقَاقُ الْحُرِّ.
ثُمَّ الْبَيَانُ فِي هَذِهِ الْجَهَالَةِ نَوْعَانِ: نَصٌّ، وَدَلَالَةٌ أَوْ ضَرُورَةٌ أَمَّا نَصٌّ: فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ الْمَوْلَى لِأَحَدِهِمَا عَيْنًا: هَذَا الَّذِي كُنْتُ أَعْتَقْتُهُ وَنَسِيتُ.
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ أَوْ الضَّرُورَةُ: فَهِيَ أَنْ يَقُولَ أَوْ يَفْعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْبَيَانِ، نَحْوُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي أَحَدِهِمَا تَصَرُّفًا لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِ الْمِلْكِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْإِعْتَاقِ وَالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ إذَا كَانَتَا جَارِيَتَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَا صِحَّةَ لَهَا إلَّا فِي الْمِلْكِ فَكَانَ إقْدَامُهُ دَلِيلَ اخْتِيَارِهِ الْمِلْكَ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ، وَكَذَا إذَا كَانَا أَمَتَيْنِ فَوَطِئَ إحْدَاهُمَا، عَتَقَتْ الْأُخْرَى بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا حُرَّةٌ بِيَقِينٍ فَكَانَ وَطْءُ إحْدَاهُمَا تَعَيُّنًا لَهَا لِلرِّقِّ، وَالْأُخْرَى لِلْعِتْقِ، وَتَعْيِينُ الْأُخْرَى لِلْعِتْقِ ضَرُورَةَ انْتِفَاءِ الْمُزَاحِمِ، بِخِلَافِ الْجَهَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ غَيْرُ نَازِلٍ فِي إحْدَاهُمَا فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَلَالَ الْوَطْءِ، وَإِنْ كُنَّ عَشْرًا فَوَطِئَ إحْدَاهُنَّ تَعَيَّنَتْ الْمَوْطُوءَةُ لِلرِّقِّ حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الصَّلَاحِ، وَتَعَيَّنَتْ الْبَاقِيَاتُ؛ لِكَوْنِ الْمُعْتَقَةُ فِيهِنَّ دَلَالَةً أَوْ ضَرُورَةً فَيَتَعَيَّنُ الْبَيَانُ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً، وَكَذَا لَوْ وَطِئَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ إلَى التَّاسِعَةِ، فَتَتَعَيَّنُ الْبَاقِيَةُ وَهِيَ الْعَاشِرَةُ لِلْعِتْقِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ يُحْمَلُ عَلَى الْجَوَازِ وَلَا جَوَازَ لَهُ إلَّا فِي الْمِلْكِ فَكَانَ، الْإِقْدَامُ عَلَى وَطْئِهِنَّ تَعْيِينًا لَهُنَّ لِلرِّقِّ، وَالْبَاقِيَةُ لِلْعِتْقِ أَوْ تَتَعَيَّنُ الْبَاقِيَةُ ضَرُورَةً وَإِلَّا حَسُنَ أَنْ لَا يَطَأَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ هِيَ الْحُرَّةُ فَلَوْ أَنَّهُ وَطِئَ، فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَا.
وَلَوْ مَاتَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ قَبْلَ الْبَيَانِ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ لَا يَطَأَ الْبَاقِيَاتِ قَبْلَ الْبَيَانِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْمُعْتَقَةُ فِيهِنَّ، فَلَوْ أَنَّهُ وَطِئَهُنَّ قَبْلَ الْبَيَانِ جَازَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُسْلِمِ الْعَدْلِ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَازِ مَا أَمْكَنَ، وَأَمْكَنَ هاهنا بِأَنْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَذَكَّرَ أَنَّ الْمُعْتَقَةَ مِنْهُنَّ هِيَ الْمَيِّتَةُ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْجَهَالَةِ إظْهَارٌ وَتَعْيِينٌ لِمَنْ نَزَلَتْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ مِنْ الْأَصْلِ فَلَمْ تَكُنْ الْحَيَاةُ شَرْطًا لِمَحَلِّيَّةِ الْبَيَانِ، وَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى وَطْئِهِنَّ تَعْيِينًا لِلْمَيِّتَةِ لِلْعِتْقِ، وَالْبَاقِيَاتِ لِلرِّقِّ دَلَالَةً أَوْ تَتَعَيَّنُ الْبَاقِيَاتُ لِلرِّقِّ ضَرُورَةً، بِخِلَافِ الْجَهَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ إذَا مَاتَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَنَّ الْمَيِّتَةَ لَا تَتَعَيَّنُ لِلْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ هُنَاكَ غَيْرُ نَازِلَةٍ فِي إحْدَاهُنَّ وَإِنَّمَا تَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَالْمَحِلُّ لَيْسَ بِقَابِلٍ لِلْحُرِّيَّةِ وَقْتَ الِاخْتِيَارِ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَلَوْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَمَاتَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا لَا تَتَعَيَّنُ الْبَاقِيَةُ لِلْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَةَ لَمْ تَتَعَيَّنُ لِلرِّقِّ لِانْعِدَامِ دَلِيلٍ يُوجِبُ التَّعْيِينَ فَلَا تَتَعَيَّنُ الْأُخْرَى لِلْعِتْقِ ضَرُورَةً، فَوَقَفَ تَعْيِينُهَا لِلْعِتْقِ عَلَى الْبَيَانِ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً، إذْ الْمَيِّتَةُ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهَا مَحِلًّا لِلْبَيَانِ إذْ الْبَيَانُ فِي هَذَا النَّوْعِ إظْهَارٌ وَتَعْيِينٌ، بِخِلَافِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ.
وَلَوْ قَالَ الْمَوْلَى: هَذَا مَمْلُوكٌ، وَأَشَارَ إلَى أَحَدِهِمَا، يَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ دَلَالَةً أَوْ ضَرُورَةً.
وَلَوْ بَاعَهُمَا جَمِيعًا صَفْقَةً وَاحِدَةً كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا؛ لِأَنَّهُ بَاعَ حُرًّا وَعَبْدًا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الثَّمَنِ، وَكَذَا لَوْ كَانُوا عَشْرَةً فَبَاعَهُمْ صَفْقَةً وَاحِدَةً، وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ، وَلَوْ بَاعَهُمْ عَلَى الِانْفِرَادِ جَازَ الْبَيْعُ فِي التِّسْعَةِ وَيَتَعَيَّنُ الْعَاشِرُ لِلْعِتْقِ.
كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ؛ لِأَنَّ بَيْعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اخْتِيَارُ إيَّاهُ لِلرِّقِّ وَيَتَعَيَّنُ الْبَاقِي لِلْعِتْقِ دَلَالَةً أَوْ يَتَعَيَّنُ ضَرُورَةَ عَدَمِ الْمُزَاحِمِ، كَمَا لَوْ وَطِئَ عَشْرَةُ نَفَرٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَارِيَةٌ فَأَعْتَقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ جَارِيَتَهُ وَلَا يُعْرَفُ الْمُعْتَقُ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَطَأَ جَارِيَتَهُ وَأَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَمَكَّنَتْ فِي الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا الْمُعْتَقِ وَالْمُعْتِقِ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الطَّرَفَيْنِ، فَلَا يُزَالُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْجَوَارِي لِوَاحِدٍ فَأَعْتَقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ ثُمَّ نَسِيَهَا، أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ وَطْءِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ هُنَاكَ لَمْ تَقَعْ إلَّا فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَلَمْ يَقَعْ الشَّكُّ إلَّا فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، إذْ الْمُعْتِقُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُرِّيَّةِ إحْدَاهُنَّ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ تُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْحُرَّةُ فَيُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهِنَّ، وَلَوْ دَخَلَ الْكُلُّ فِي مِلْكِ أَحَدِهِمْ، صَارَ كَأَنَّ الْكُلَّ كُنَّ فِي مِلْكِهِ فَأَعْتَقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ ثُمَّ جَهِلَهَا.
وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ مَجَّانًا بِغَيْرِ شَيْءٍ وَنِصْفُهُ بِالْقِيمَةِ، فَتَسْعَى كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِلْوَرَثَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجَهَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ حُكْمُهُ:

فَالْمُظْهِرُ لَهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: الْإِقْرَارُ، وَالثَّانِي الْبَيِّنَةُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ الْمَوْلَى بِإِعْتَاقِ عَبْدِهِ يَظْهَرُ بِهِ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ كَاذِبًا فَيُصَدَّقُ فِي إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَقْبَلُ عَلَى غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ شَهَادَةً عَلَى الْغَيْرِ، وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَلَوْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدِ غَيْرِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ، عَتَقَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ مَقْبُولٌ وَلَا يُقْبَلُ عَلَى غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ شَهَادَةً عَلَى الْغَيْرِ وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، فَإِذَا اشْتَرَاهُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ تَقْيِيدِهِ فِي حَقِّهِ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْبَيِّنَةُ: فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا تُقْبَلُ عَلَى عِتْقِ الْمَمْلُوكِ إذَا ادَّعَى الْمَمْلُوكُ الْعِتْقَ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى سَوَاءٌ كَانَ الْمَمْلُوكُ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَدَّعِ وَأَنْكَرَ الْعِتْقَ، وَالْمَوْلَى أَيْضًا مُنْكِرٌ فَهَلْ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى عِتْقِهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَاهُ؟ فَإِنْ كَانَ الْمَمْلُوكُ جَارِيَةً تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا لَا تُقْبَلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تُقْبَلُ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَنَّ عِتْقَ الْعَبْدِ حَقُّ الْعَبْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّهَادَةُ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعَاوِيهِمْ كَالْأَمْوَالِ وَسَائِرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَعِنْدَهُمَا هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّهَادَةُ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَقْبُولَةٌ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى أَحَدٍ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى إعْتَاقِ الْإِنْسَانِ أَمَتَهُ وَتَطْلِيقِهِ امْرَأَتَهُ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى أَسْبَابِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ، إلَّا السَّرِقَةَ فَإِنَّهُ شُرِطَ فِيهَا الدَّعْوَى لِتَحْقِيقِ السَّبَبِ، إذْ لَا يَظْهَرُ كَوْنُ الْفِعْلِ سَرِقَةً شَرْعًا بِدُونِ الدَّعْوَى؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ فَنَتَكَلَّمُ فِي الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً وَابْتِدَاءً، أَمَّا الْبِنَاءُ، فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ فِي الْإِعْتَاقِ تَحْرِيمَ الِاسْتِرْقَاقِ وَحُرْمَةُ الِاسْتِرْقَاقِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا رَجُلًا بَاعَ حُرًّا وَأَكَلَ ثَمَنَهُ» وَكَذَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَهْلِيَّةُ وُجُوبِ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْكَفَّارَاتِ وَالزَّكَوَاتِ وَالْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْعِتْقَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ عَلَيْهِ، كَمَا فِي عِتْقِ الْأَمَةِ وَطَلَاقِ الْمَرْأَةِ وَكَمَا فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ، وَكَذَا الْأَحْكَامُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ لِلْعَبْدِ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَاهُ، وَكَذَا الشَّهَادَةُ عَلَى نَسَبِ صَبِيٍّ صَغِيرٍ مِنْ رَجُلٍ وَأَنْكَرَ الرَّجُلُ، وَكَذَا الشَّهَادَةُ عَلَى الْمَوْلَى بِاسْتِيلَادِ جَارِيَتِهِ وَهُمَا مُنْكِرَانِ، وَكَذَا التَّنَاقُضُ فِي الْعِتْقِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى بِأَنْ قَالَ عَبْدٌ لِإِنْسَانٍ: اشْتَرِنِي فَإِنِّي عَبْدُ فُلَانٍ، فَاشْتَرَاهُ، ثُمَّ ادَّعَى الْعَبْدُ حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ، تُسْمَعُ دَعْوَاهُ.
وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِيهِ شَرْطًا لَكَانَ التَّنَاقُضُ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الدَّعْوَى كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ، وَالْعِتْقُ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ اسْمٌ لِقُوَّةٍ حُكْمِيَّةٍ تَثْبُتُ لِلْعَبْدِ تَنْدَفِعُ بِهَا يَدُ الِاسْتِيلَادِ وَالتَّمَلُّكِ عَنْهُ، وَالْحُرِّيَّةُ حَقُّهُ إذْ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهَا مَقْصُودًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَضَرَّرُ بِانْتِفَائِهَا مَقْصُودًا بِالِاسْتِرْقَاقِ، وَكَذَا التَّحْرِيرُ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ، وَالْحُرِّيَّةُ فِي مُتَعَارَفِ الشَّرْعِ وَاللُّغَةُ تُنْبِئُ عَنْ خُلُوصِ نَفْسِ الْعَبْدِ لَهُ عَنْ الرِّقِّ وَالْمِلْكِ وَذَلِكَ حَقُّهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مَقْصُودًا وَحَقُّ الْإِنْسَانِ مَا يَنْتَفِعُ هُوَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِتْقَ حَقُّ الْعَبْدِ فَالشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ لَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَاهُ، كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ الْقَائِمَةِ عَلَى سَائِرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ إذَا كَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ كَانَ الْعَبْدُ مَشْهُودًا لَهُ، فَإِذَا أَنْكَرَ فَقَدْ كَذَّبَ شُهُودَهُ، وَالْمَشْهُودُ لَهُ إذَا كَذَّبَ شُهُودَهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتَهُمْ لَهُ.
وَالثَّانِي أَنَّ إنْكَارَ الْمَشْهُودِ لَهُ حَقُّهُ مَعَ حَاجَتِهِ إلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ يُوجِبُ تُهْمَةً فِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَتَبَادَرَ إلَى الدَّعْوَى وَلَا شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: فِي الْإِعْتَاقِ تَحْرِيمُ الِاسْتِرْقَاقِ، فَنَقُولُ: الْإِعْتَاقُ لَا يُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُنْبِئُ عَنْ إثْبَاتِ الْقُوَّةِ وَالْخُلُوصِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَذَلِكَ حَقُّهُ، ثُمَّ إذَا ثَبَتَ حَقُّهُ بِالْإِعْتَاقِ حُرِّمَ الِاسْتِرْقَاقُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ الِاسْتِرْقَاقِ حَقُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ لِلْعِبَادِ يَحْرُمُ إبْطَالُهَا وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ إبْطَالِهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ فِي الْعِتْقِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْعَبْدِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ لَا تُقْبَلُ فَدَارَتْ الشَّهَادَةُ بَيْنَ الْقَبُولِ وَعَدَمِ الْقَبُولِ فَلَا تُقْبَلُ مَعَ الشَّكِّ؛ وَلِهَذَا لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْقَذْفِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْمَقْذُوفِ، وَإِنْ كَانَ حَدُّ الْقَذْفِ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وَجْهٍ وَحَقَّ الْعَبْدِ مِنْ وَجْهٍ، كَذَا هَاهُنَا.
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ، فَأَمَّا عِتْقُ الْأَمَةِ فَثَمَّةَ هَكَذَا نَقُولُ: إنَّ تِلْكَ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ عَلَى الْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ ذَاتُ الْعِتْقِ؛ لِمَا قُلْنَا فِي الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ مِنْ حَيْثُ إنَّ عِتْقَ الْأَمَةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبٌ لِتَحْرِيمِ الْفَرْجِ وَوَسِيلَةٌ إلَيْهِ، وَالشَّيْءُ مِنْ حَيْثُ التَّسَبُّبُ وَالتَّوَسُّلِ غَيْرٌ وَمِنْ حَيْثُ الذَّاتُ غَيْرٌ، كَمَا قُلْنَا فِي كُفْرِ الْمُحَارَبِ: إنَّهُ يُوجِبُ الْقَتْلَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبٌ لِلْحِرَابِ لَا مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ بَلْ ذَاتُ الْكُفْرِ غَيْرُ مُوجِبٍ؛ لِأَنَّهُمَا غَيْرَان، كَذَا هَذَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ، فَإِنَّ الْعِتْقَ قَدْ لَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى تَحْرِيمِ الْفَرْجِ وَهُوَ عِتْقُ الْعَبْدِ، ثُمَّ مَتَى قُبِلَتْ عَلَى الْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبُ حُرْمَةِ الْفَرْجِ تُقْبَلُ مِنْ حَيْثُ ذَاتُ الْعِتْقِ.
وَكَذَا فِي طَلَاقِ الْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَاهَا، وَلَيْسَ لِلْعِتْقِ فِي مَحِلِّ النِّزَاعِ سَبَبِيَّةُ تَحْرِيمِ الْفَرْجِ، فَلَوْ قُبِلَ لَقُبِلَ عَلَى ذَاتِ الْعِتْقِ وَلَا وَجْهَ إلَيْهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا فَإِنَّهُ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْعُذْرِ فِي فَصْلِ الْأَمَةِ وَالطَّلَاقُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْأُخْتُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَقْبُولَةٌ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى، وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ لَا تَتَضَمَّنُ حُرْمَةَ الْفَرْجِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً قَبْلَ ذَلِكَ، وَكَذَا الشَّهَادَةُ عَلَى الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَالطَّلَاقِ الْمُضَافِ إلَى الْمِلْكِ يُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى، وَلَا تَتَضَمَّنُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَمْنَعُ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَتَيْنِ فَقَالُوا: لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ دَعْوَى؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَّمَ مَسْأَلَةَ الْمَجُوسِيَّةِ وَمَنَعَ مَسْأَلَةَ الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ وَطْءَ الْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ لِخُبْثِهَا كَمَا يُمْنَعُ مِنْ الْوَطْءِ حَالَةَ الْحَيْضِ؛ وَلِهَذَا لَوْ وَطِئَهَا لَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ، وَبَعْدَ الْعِتْقِ لَوْ وَطِئَهَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ، فَالشَّهَادَةُ عَلَى عِتْقِهَا تَضَمَّنَتْ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ فَقُبِلَتْ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى، فَأَمَّا الْأُخْتُ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَحَرَامُ الْوَطْءِ حَقِيقَةً، حَتَّى لَوْ وَطِئَهَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ مَعَ قِيَامِ مِلْكِ الْيَمِينِ وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْبَابِ تَحْرِيمُ الْفَرْجِ لَا الْأُنُوثَةُ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى النَّسَبِ قَطُّ لَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى، وَفِيمَا ذَكَرَ مِنْ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ مَا إذَا كَانَ صَغِيرًا فَلَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَا لَمْ يُنَصِّبْ الْقَاضِي خَصْمًا عَنْ الصَّغِيرِ لِيَدَّعِيَ النَّسَبَ لَهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ شَرْعًا؛ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ الْعَاجِزِ عَنْ إحْيَاءِ حَقِّهِ بِنَفْسِهِ وَالْقَاضِي نُصِّبَ نَاظِرًا لِلْمُسْلِمِينَ وَكَانَ ذَلِكَ شَهَادَةً عَلَى خَصْمٍ.
وَأَمَّا الِاسْتِيلَادُ فَهُوَ سَبَبٌ لِتَحْرِيمِ الْفَرْجِ وَالدَّعَاوَى فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ حَقِيقَةَ الْحُرِّيَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَالْحُرْمَةُ لَازِمَةٌ لِلْحُرِّيَّةِ حَتَّى لَا يُبَاحَ لَهَا مَسُّ الْمَوْلَى وَغَسْلُهُ بِسَبَبِ الْحُرِّيَّةِ، فَكَانَ الِاسْتِيلَادُ فِي الْحَالِ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ فَكَانَ سَبَبًا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَالِ فَيُقَامُ السَّبَبُ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ التَّحْرِيمِ احْتِيَاطًا وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَالطَّلَاقِ الْمُضَافِ إلَى الْحُرِّيَّةِ ثَمَّةَ ثَبَتَ فِي الْجُمْلَةِ أَيْضًا عِنْدَ وُجُودِ زَوَالِ الْحِلِّ، فَيُعْتَبَرُ السَّبَبُ قَائِمًا مَقَامَ الْمُسَبَّبِ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا.
وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ عَدَالَةَ الشَّاهِدِ دَلَالَةُ صِدْقِهِ فِي شَهَادَتِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ؛ فَيَثْبُتُ الْمَشْهُودُ بِهِ ظَاهِرًا وَالْقَاضِي مُكَلَّفٌ بِالْقَضَاءِ بِالظَّاهِرِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُشْتَرَطَ الدَّعْوَى لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ أَصْلًا وَلِهَذَا لَمْ تُشْرَطْ فِي عِتْقِ الْأَمَةِ وَطَلَاقِ الْمَرْأَةِ وَأَسْبَابِ الْحُدُودِ، إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا اشْتِرَاطَهَا فِيمَا وَرَاءَ الْعِتْقِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ الْإِجْمَاعِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ خَبَرَ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ مُحْتَمِلٌ لِلْكَذِبِ فَلَا يُفِيدُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي بِالْمَشْهُودِ بِهِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَجُوزَ الْقَضَاءُ بِمَا لَا عِلْمَ لِلْقَاضِي بِهِ وَبِمَا لَيْسَ بِثَابِتٍ قَطْعًا؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وَإِنَّهُ اسْمٌ لِلثَّابِتِ قَطْعًا وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} وَالْحَقُّ اسْمٌ لِلْكَائِنِ الثَّابِتِ، وَلَا ثُبُوتَ مَعَ احْتِمَالِ الْعَدَمِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ الْقَضَاءُ بِهِ أَصْلًا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَاءَ بِالْجَوَازِ؛ لِحَاجَةِ الْعِبَادِ إلَى دَفْعِ الْفَسَادِ وَهُوَ الْمُنَازَعَةُ الْقَائِمَةُ بَيْنَهُمَا بِالدَّعْوَى، وَالْمُنَازَعَةُ سَبَبُ الْفَسَادِ، أَوْ لِدَفْعِ فَسَادِ الزِّنَا كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا وَعِتْقِ الْأَمَةِ وَطَلَاقِ الْمَرْأَةِ، أَوْ لِدَفْعِ فَسَادِ السُّكْرِ فِي حَدِّ الشَّارِبِ وَالسُّكْرِ فَأَلْحَقَ الْمُحْتَمَلَ بِالْمُتَيَقَّنِ أَوْ اكْتَفَى بِظَاهِرِ الصِّدْقِ مَعَ الِاحْتِمَالِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ، فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ عَلَى الْأَصْلِ وَعَلَى هَذَا شَاهِدَانِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ وَالْعَبْدَانِ يَدَّعِيَانِ الْعِتْقَ أَوْ يَدَّعِيَهُ أَحَدُهُمَا، فَإِنْ شَهِدَا فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى وَصِحَّتِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ عِنْدَهُ، وَالْمُدَّعِي مَجْهُولٌ فَجَهَالَةُ الْمُدَّعِي مَنَعَتْهُ صِحَّةَ الدَّعْوَى فَامْتَنَعَ قَبُولُ الشَّهَادَةِ، وَعِنْدَهُمَا الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَجَهَالَةُ الْمُدَّعِي لَا تَكُونُ أَقَلَّ مِنْ عَدَمِ الدَّعْوَى فَلَا تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فَتُقْبَلُ وَيُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ، وَإِنْ شَهِدَا بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَى أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا فِي حَالِ صِحَّتِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَإِنْ شَهِدَا عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ مَرِيضٌ فَمَاتَ، أَوْ شَهِدَا بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي الْمَرَضِ لَا تُقْبَلُ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تُقْبَلُ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمَا إذَا شَهِدَا عَلَى أَنَّهُ طَلَّقَ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ، تُقْبَلُ وَيُخَيَّرُ فَيَخْتَارُ طَلَاقَ إحْدَاهُمَا، وَجْهُ قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الدَّعْوَى شَرْطٌ، وَالْمُدَّعِي مَجْهُولٌ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ هاهنا مَعْلُومٌ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ، وَالْخَصْمُ فِي تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ هُوَ الْمُوصِي، فَكَانَ الْمَيِّتُ الْمَشْهُودُ لَهُ لِوُقُوعِ الشَّهَادَةِ لَهُ فَكَانَ الْمُدَّعِي مَعْلُومًا فَجَازَتْ الشَّهَادَةُ لَهُ، بِخِلَافِ حَالِ الصِّحَّةِ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ هُنَاكَ وَقَعَتْ لِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ فَكَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ مَجْهُولًا فَلَمْ تُجْزِ الشَّهَادَةُ؛ وَلِأَنَّ الْمَوْلَى لَمَّا مَاتَ فَقَدْ شَاعَ الْعِتْقُ فِيهِمَا جَمِيعًا فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، مُتَعَيِّنًا فَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِخِلَافِ حَالِ الْحَيَاةِ وَالصِّحَّةِ.
وَكَذَلِكَ جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأَمَتَيْنِ بِأَنْ شَهِدَا بِأَنَّهُ أَعْتَقَ إحْدَى أَمَتَيْهِ، أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ انْعِدَامَ اشْتِرَاطِ الدَّعْوَى بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِحُرْمَةِ الْفَرْجِ وَهِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْفَرْجِ بِالْعِتْقِ الْمُبْهَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَكَانَ الْجَوَابُ فِي الْعَبْدَيْنِ وَالْأَمَتَيْنِ هاهنا عِنْدَهُ عَلَى السَّوَاءِ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَا عَلَى أَنَّهُ طَلَّقَ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ، أَنَّهَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهَا قَامَتْ عَلَى سَبَبِ حُرْمَةِ الْفَرْجِ، وَالدَّعْوَى فِيهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ.
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فُلَانًا، لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَجْهُولٌ وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ وَسَمَّاهُ وَنَسِينَاهُ، أَنَّ الشَّهَادَةَ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ إذَا نَسِيَ مَا تَحَمَّلَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ سَالِمًا وَلَا يَعْرِفَانِ سَالِمًا، وَلَهُ عَبْدٌ اسْمُهُ سَالِمٌ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، وَلَوْ شَهِدَا بِهِ فِي الْبَيْعِ لَا تُقْبَلُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ أَصْلًا وَالْعِتْقُ يَحْتَمِلُ ضَرْبًا مِنْ الْجَهَالَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ وَيَجُوزُ إعْتَاقُ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ.
وَلَوْ اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي الشَّرْطِ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ الْعِتْقَ، لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِعَقْدَيْنِ كُلُّ عَقْدٍ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَتْ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي دَعْوَى الْعِتْقِ لَا تُقْبَلُ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ فِي دَعْوَى الْمَالِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَوِفَاقٌ وَاخْتِلَافٌ، نَذْكُرُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.